الحلقة الخامسة والعشرون - مسائل متعلقة بالعقيدة القضاء والقدر

-->
الجزء الأول
من ضمن المسائل التي ضلّ الناس عنها، وانحرفت مفاهيمها عندهم، المسائل المتعلقة بالعقيدة مباشرة، والتي أصبح لها أثر سلبي على عقيدتهم كأفراد، وتأثير مباشر على سلوكهم ومواقفهم وعلاقاتهم، وعلى تربيتهم الشخصية، وعلى تربية الأجيال من بعدهم، هذه المسائل كانت من ضمن المسائل التي نالها التحريف إلى جانب عقيدة الإسلام ونظامه، وأفكار الإسلام ومقاييسه وقناعاته كما بيناها في الحلقات السابقة. من أهم هذه المسائل المتعلقة بالعقيدة، مفهوم القضاء والقدر، ومفهوم الهداية والضلال، ومفهوم الرزق، ومفهوم إنتهاء الأجل، ومفهوم التوكل.

القضاء والقدر
لقد تسبب الجهل بمفهوم القضاء والقدر التأثير على نظرة الإنسان المسلم للحياة، ونظرته للواقع، وعلى المنهج الذي يسلكه في التعامل مع صناعة حاضره ومستقبله، وعلى مطالبه في الحياة وعلى موقفه من دينه وعقيدته، أي على موقفه من العقيدة الإيمانية بوجود الله.
لذا يجب علينا أن نصحح مفهوم القضاء والقدر  ونبينه بشكل واضح وميسور، نعتمد في ذلك أساساً على التفريق بين أربع مسائل متعلقة بهما:
المسألة الأولى: أفعال الإنسان الاختيارية، والثانية: القضاء، والثالثة: القدر، والرابعة: اللوح المحفوظ، فالخلط بين هذه الأربعة المسائل بغير علم يلخبط فهم مسألة القضاء والقدر، وبالتالي تحصل المشكلة التي ذكرناها.
غالباً ما يظن كثير من المسلمين أن أفعال الإنسان جبرية، أي أن الإنسان مسيّر في أفعاله "كما يُظن"، فهي على حد قولهم مكتوبة في اللوح المحفوظ، ويُظن أن الله قد قدر على أناس أن يكونوا ضالين، وقدر على آخرين بالهداية، وخلق خلقاً للنار وخلقاً للجنة، ويُظن أن في الإنسان نزعة خير، ونزعة أخرى للشر، وبالتالي يظنون أن الإنسان تسيره نزعاته التي خلقها الله فيه، ولا يقدر هو على فعل ما يخالفها، ولذلك فإن هناك معسكر شر في الدنيا، وهناك معسكر خير، وكلاهما في صراع مستمر، وبالتالي فهناك مسلمون وآخرون كافرون، بإرادة من الله وحكمٍ منه عليهم، وقد قرر الله قبل خلقهم "كما يظنون" عذاب هؤلاء، ونعيم أولئك، وليس هناك مهرب من دخولهم إلى النار أو دخولهم إلى الجنة. وما إلى آخر هذه الظنون المُضللة.

أفعال الإنسان الإختيارية : عندما خلق الله الإنسان أعطاه ميزةً مختلفة عن كل المخلوقات الأخرى، أن أعطاه العقل، وحرية التصرف في الأفعال، أي حرية التصرف بين القيام بأفعال وعدم القيام بغيرها، وتركُ أفعال والقيام بغيرها مختاراً غير مجبر. وبالتالي فإن الإنسان بمقدوره أن يؤمن بالله، وكذا بمقدوره أن لا يؤمن به، وبمقدوره أن يقتل آخرين، وبمقدوره أن لا يفعل، وبمقدوره أن يتخلق بالخلق الحسن، وبمقدوره خلاف ذلك، وبمقدوره أن يزني، وبمقدوره أن يحصّن نفسه، وبمقدوره أن يرتزق بالمال الحلال أو يرتزق بالمال الحرام، وبمقدوره أن يطلب العلم أو أن يبقى جاهلاً، كل هذه الأمور هي في دائرة يسيطر عليها الإنسان وليس لأحد أن يمنعه منها، أو يدفعه عليها جبراً عنه.

القضاء، أو الأفعال الغير إختيارية: هي دائرة من الأفعال تسيطر على الإنسان رغما عنه وليس له أن يختار غيرها، وليس هو محاسب عليها مسلما كان أم كافرا، جزء من هذه الأفعال مما يقتضيه نظام الوجود، وآخر مما لا يقتضيه نظام الوجود، فالإنسان يعيش ضمن نظام محدود في هذا الكون، بليله ونهاره وتداول أيامه وسنينه، وبطبيعة الأرض التي يعيش فيها بمائها وهوائها وأشجارها، وقد خلقه الله بصورة معينه في صفة رجليه ويديه ورأسه وكيفية حركته، وكيفيّة مجيئه إلى الدنيا وذهابه عنها، وصفات خلقية تحدد كيفية معينة للعيش في هذه الدنيا، وما إلى آخر هذه الأفعال التي ليس للإنسان فيها أن يقرر غيرها أو يغيّرها أو يعيش بخلافها، فليس له أن يمشي على الماء بقدمية ولا أن يطير بجناحين، فالإنسان في هذه مجبر، ومسيّر وليس بمخيّر، وهذا كله من القضاء.
ومن القضاء أيضاً ما لا يقتضيه نظام الوجود من الأفعال، وهذه الأفعال التي تحصل من الإنسان أو عليه جبراً عنه وليس بمقدوره دفعها، فمرض أحدهم أو شفاؤه من القضاء، ودخوله السجن أو الخروج منه من القضاء، وفَناء المال أو موت حبيب أو قريب فهو قضاء، وسقوط أحدهم على الأرض أو هلاكه دون إرادة منه فهو قضاء، وأن يعطل دولاب السيارة وهي مسرعة ويحصل مكروهاً، أو تتعطل السيارة في طريق السفر فيتعطل المسافرون فهو قضاء، أو يطلق أحدهم رصاصة على طير فأصابت أحدهم عن غير قصد، فهذا قضاء الله على صاحب الرصاصة، وقضاءٌ على من أصابته الرصاصة، إما إن أطلق أحدهم الرصاصة عمداً على أحدهم فهذا ليس قضاء الله من صاحب الرصاصة، وإنما هو فعل إختياري محاسب عليه، ولكنه قضاء على من أصابته الرصاصة وهكذا.
وبالتالي فإن كل هذه الأفعال مما يقتضيها نظام الوجود، أو الأفعال التي لا يقتضيها نظام الوجود من أفعال الإنسان التي ليس بمقدور الإنسان دفعها، هي التي تسمى قضاء.

قال الله تعالى في سورة النساء 79
ما أصابك من حسنة فمن الله وما أصابك من سيئة فمن نفسك وأرسلناك للناس رسولاً وكفى بالله شهيداً
قال الله تعالى في سورة السجدة 22
ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها، إنا من المجرمين منتقمون
وقال تعالى في سورة البقرة 117 : بديع السموات والأرض ، وإذا قضى أمراً فإنما يقول له كن فيكون

هناك 3 تعليقات:

  1. السلام عليكم يادكتور محمد..كان هذا الموضوع في صلب موضوع انا فيه مع رأي ابن القيم ورأي الشيخ الماوردي والذي هو تماما مطابق لرأيك والذي ينص فيه الشيخ الماوردي ان القدر موكل بالمنطق وقال ابن القيم ان هذا يعني ان الشخص كان قدره العقاب من احدهم فأعتذر له وقبل اعتذاره وأزيح عنه العقاب فهذا غير قدره بقوله والأخرافعاله افعال اهل الجنه وفعل فعل اهل النار ومات عليه فدخل النار فهذا غير قدره بأفعاله واخر كانت لتأتيه المصيبه فدعا ربه مستجيرا فأجاره فهذا غير قدره بدعائه وهكذا اصبح القدر موكل بالمنطق ..وبالنسبة لي فأنا أومن ان حتى القضاء يرد او يخفف بالمنطق في الدعاء او التكير بالقبول الكامل وشرط هذا القبول الضا والسعاده وليس فقط القبول والله اعلم

    ردحذف
  2. سلام عليكم من الله ورحمة ....

    القدير د. تركي ...
    بارك الله فيك فقد أنرت لنا الدرب ووضحت ما نحن فيه مختلفون مع غيرنا ممن صاروا يرجعون جميع أعمالهم وأقوالهم ومايترتب عليها من خير أو شر لأقدارهم وأنهم يدورون في فلك ما يقضيه الله لهم وما يشاؤه سبحانه... فهم إذا حسب اعتقادهم مسيرون وليسوا مخيرون فيما يخص حياتهم الدنيوية ومن المؤسف حقا إصرار البعض على المضي في طرقاتهم المظلمة ولا نية لهم في تغيير مسلكهم لقناعاتهم وطبعا جهلا وغيا بأن الله هو من اختار لهم ذات الدرب لذلكم هم مسيرون بلا إرادة منهم ...فلا حول ولا قوة إلا بالله العظيم ...


    شكرا تليق بكـ أستاذي الكريم ..
    وجمعنا الله وإياكم تحت عرشه
    واظلنا بظله يوم لا ظل إلا ظله


    بالغ تقديري وامتناني واحترامي
    أختك / شوق الليالي

    ردحذف