الحلقة الرابعة والعشرون - أهمية الإيمان بالله أو الكفر به

كما بيّنا في الحلقات السابقة فإن الإسلام والإيمان ليسا كما يفهمهما الناس اليوم بما علموا، بأنها مجرد علاقة بين العبد وربه وكفى، فمن آمن آمن، ومن كفر كفر، ومن لم يهتم فشأنه شأن غيره ممن آمن أو كفر، والمشكلة شخصية لا أكثر.

والأمر حتما ليس كذلك ولو كان كذلك لكُفينا عناء الدعوة وتكاليفها ومشاقّها الآن، ولكُفيها سيدُنا محمد صلى الله عليه وسلم عندما بُعث برسالة الإسلام، ولمَا آذاه أحد من كفار قريش أو حاربه، ولما أصبح للمسلمين دولة عظمى قادها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، وتبعه فيها الخلفاء الراشدون ومن أتى بعدهم، لمدة إثني عشر قرن فعلي من الزمان.

ولذلك يجب أن يُدرك أن مسألة الإيمان أو عدمه مسألة مصيرية عند الإنسان، تقرر حياة الإنسان وحاضره ومستقبله، وتقرر رقيّه أو انحطاطه وعزته أو هوانه، وتقرر تطوره أو تخلفه، وتقرر حريته أو عبوديته، فكيف يكون ذلك؟

إن مسألة الإيمان بالله أو الكفر به والإيمان بغيره جل وعلا، هي مسألة تحدد وتقرر مفاهيم الإنسان في كل جوانب الحياة، أولها مفاهيم الإتباع والطاعة والولاء، وأخرى كمفهوم الخير والشر والحُسن والقُبح، ومفهوم السعادة والحرية، ومفهوم العمل الصالح، والمفاهيم المتعلقة بالحياة الاجتماعية كمفهوم العائلة والأبناء والوالدين والجيران والمجتمع، والمفاهيم المتعلقة بالحياة الاقتصادية كمفهوم المال من ناحية كسبه وحيازته وصرفه، وكل المفاهيم التي تحدد مسار حياة الأفراد في علاقاتهم مع الله، ومع غيرهم من الناس، وفي علاقتهم مع أنفسهم في مأكلهم ومشربهم وغيره.

هذه المفاهيم عادة هي الأساس الذي يتعلق بالبناء الإجتماعي للمجتمعات، وتحديد هوية المجتمع بأفكاره وأنظمته ومشاعره، والأفكار والمقاييس والقناعات التي يحملها، وبالتالي صناعة العادات والتقاليد والأعراف التي يعيش بها المجتمع، فتكون هي الأساس الذي تتعارف به وتحاسب بعضها بعضاً على أساسه.

وكذلك فإن هذه المفاهيم التي تنتج من خلال العقيدة، أي عقيدة كانت، عقيدة إيمانية بوجود الله أو عقيدة كفر، هي التي تقرر كذلك صفة الدول التي تقوم على المفاهيم، بدءاً من فكرة ومفهوم (الخلافة) أي الحكم لله، أو فكرة ومفهوم (الديمقراطية) أي الحكم للشعب، أي بتقرير السيادة لله كما في دولة الخلافة، أو للشعب كما في الدول الديمقراطية، أو للملك أو للرئيس كما في الدول العربية وغيرها. وتقرير السلطان (أي القوة التي يعتمد عليها الكيان السياسي القائم) إما للشعب كما في دولة الخلافة، أو لقوة خارجية (في حال الدول المحتلة كالدول العربية أو غيرها حالياً)، أو تقرير السلطان للحاكم أو الحزب القائم بجيشه كما كان في الإتحاد السوفيتي، وإنتهاء بالمفاهيم الإقتصادية والإجتماعية والسياسية والإدارية التي تتبناها الدول على حسب عقيدتها وعقيدة شعوبها.

إن العقيدة الإسلامية حتى ولو كانت عند فرد واحد فإنها ذات بُعد عالميّ يصل إلى إنشاء دولة كما حصل مع سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد كان فرداً واحداً، وبالتالي إلى إنشاء دولة ذات هوية بعقيدتها وبمفاهيم معينة تصبغها وتصبغ أفكارها وعلاقاتها وأفرادها، وتقرر هوية مجتمعها، وتقرر سياساتها الداخلية والدولية والعالمية.

وكذا الحال في العقيدة الرأسمالية التي نشأت مؤخراً بمبدأ فصل الدين عن الحياة، أي بتهميش الدين كاملاً، بل وبإستبعاده عن كافة شؤون الحياة الداخلية والخارجية والإجتماعية والإقتصادية للناس، هذا الفكر وهذه العقيدة التي لم يكن نشوؤها قائماً على أساس فكري عقدي منظم (كما حصل من خلال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم) بل قامت من خلال حل وسط وصلت إليه أوروبا بعد معارك تاريخية طويلة وعنيفة ودامية بين القياصرة من جهة، ورجال الدين المسيحي من جهة، والعلمانيين الرافضين لفكرة الدين من جهة أخرى، حتى أنتجت في آخر المطاف عقيدة راسخة تقوم على التحرر من الدين وأحكام الكنيسة، والتحرر من أحكام الملوك والقياصرة، والتحرر من كافة القيود والتشريعات فيما يتعلق بالأمور الفكرية والإجتماعية أو الشخصية أو الدينية أو المتعلقة بالتملك والرأي، ومن ثم أنتجت هذه المطالب التحررية نظام الحكم الديمقراطي الذي يقرر فيه الناس بأنفسهم الأحكام التي يريدونها ويرتضونها لأنفسهم، وعلى هذا الأساس قامت الدول الرأسمالية الحالية المهيمنة على العالم.

لقد بدأت الويلات والنكبات تنكب أولاً على الشعوب الغربية أول نشوء هذه الدول، حيث أفرزت كوارث داخلية وخارجية على شعوب العالم وعلى شعوبها من العبودية المُذلة ومن الفقر والعوز والظلم، واستبداد أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة (الرأسماليون) واستلامهم قيادة شعوبهم، حتى بدأ الإحتلال الغربي لأراضي العالم الإسلامي القريبة والبعيدة، وكذا إحتلال البلدان ذات الموارد الطبيعية، هنا بدأ الضغط يخف على الشعوب الغربية التي تطورت أوضاعها وتحسنت بنشوء الأحزاب السياسية والنقابات وتقاسم الثروات المنهوبة مع الحكام الرأسماليين.

لقد إستغل العالم الغربي عقيدته الإجرامية هذه، التي قامت على إعتبار أن المصالح هي أمُّ القيم فقاموا باحتلال بلدان العالم الإسلامي، الذي ذهب لقمة سائغة بعد سقوط دولة الخلافة الإسلامية في العام 1924 ميلادية 1342 هجرية، وفي احتلال أي بلاد في كافة أنحاء العالم، واحتلال بلدان شعوب دولها ضعيفة أو صغيرة أو غير متطورة من الناحية العسكرية والدفاعية، وهكذا إنطلقت أوروبا بكل دولها في كل الإتجاهات تقتل هنا وهناك وتنهب هنا وتحتل هنا وتدمر هناك، وتضع يدها على البلدان وتقتل الناس وتستعبد الرجال والنساء وتقتل الأطفال، واستباحت بالأسلحة الجديدة النارية كل الشعوب والبلدان الآمنة في كل أنحاء العالم، فالعقيدة الجديدة تبيح لهم ما لم يحصل في تاريخ البشرية وفي حاضرها، وكأن الشيطان بجنوده انتصر أخيراً على الإنسان في الأرض، فقضى على القيم التي أوجدها الله في الإنسان وأوجدها على الأرض وبعث بها الرسل، وما زال الحال كذلك حتى اليوم، تعبث أوروبا وأمريكا وروسيا وغيرهم في بلدان العالم وتتنافس عليها وعلى ثرواتها ومواقعها الإستراتيجية، وتتنافس على شعوبها بإبقائهم عبيداً لهم وبجعل بلدانهم سوقاً إستهلاكية مفتوحة لصناعاتهم وزراعاتهم وتجارتهم.

في الحين الذي تسببت العقيدة الرأسمالية الكفرية حربين عالميتين شنيعتين، وحروباً أخرى فظيعة، و حروباً متفرقة هنا وهناك، وما زالت كذلك، وفي الحين الذي صنعت الفقر لثلثي عالم الأرض، وفي الحين الذي لوثت به عقول الناس وأفكارهم وطريقة تفكيرهم كما لوثت البيئة بالأسلحة والنفايات النووية والكيميائية، وفي الحين الذي نشرت به الرذيلة والشهوانية في كل أنحاء العالم، وفي الحين الذي أعزت به الذليل وأذلت به العزيز، واحتكرت الصناعات والزراعة والتجارة لنفسها، وحرمت باقي البلدان منها.

لقد زرعت العقيدة الإسلامية والفتوحات الإسلامية في العالم أيام مجدها أرقى المعارف وأسمى الأخلاق الفاضلة، وأرفع مراسم العدل والخير، عند من أسلم، وعند من لم يسلم، ونهضت العقيدة الإسلامية في العالم بكل الدول التي فتحتها زراعياً وصناعياً وعمرانياً وإجتماعياً وأخلاقياً، وعلمتهم معاني الخير وتطبيقاته، ونشرت مفاهيم القيم الروحية والإنسانية والأخلاقية والمادية، وحفظت الأموال، وحقنت الدماء، وصانت الأعراض، ففرضت في كل أنحاء العالم سلاماً منقطع النظير، كونها الدولة العظمى التي تفرض الأعراف والمفاهيم والمقاييس بين الدول، حتى اندفع بعض الحكام الغير مسلمين إلى الإيمان برسالة الإسلام وتبنيه ليكون دين الدولة التي يحكم بها، فدخل ملايين الناس إلى دين الإسلام أفواجاً راضين مطمئنين.

هذه هي العقائد وما تقرره من مفاهيم، وهذه المفاهيم وما تقرره من أعمال، وبالتالي فإن العقائد أساس صناعة حياة الإنسان وحاضره ومستقبله، فإن كانت العقيدة كما تدلنا إليه الفطرة السليمة والعقل المستنير، وكما علمنا إياه الله سبحانه وتعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم فهي خير، وإن كانت العقيدة كما هي اليوم من فعل الإنسان ووساوس شياطينه، فهي شر مستطير، كما نراها ونسمعها ونعيشها في واقع العالم اليوم.

قال تعالى في سورة النساء 136
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ آمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيدًا
  
البقرة- آية257
الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون

وقال تعالى في سورة المائدة 82 

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُواْ وَلَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَّوَدَّةً لِّلَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ قَالُواْ إِنَّا نَصَارَى ذَلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا وَأَنَّهُمْ لاَ يَسْتَكْبِرُونَ

هناك تعليقان (2):

  1. والله العظيم والله العظيم والله العظيم إنها من أروع ماقرأت وتعلمت

    ردحذف
  2. أحسنت دكتور وبارك الله بيك

    ردحذف