الإبداع - الجزء الثاني -

الإبداع في الإدارة

إن المدير هنا قد لا يكون في حاجة إلى الإبداع فهو يقوم بعمله بشكل مُرض وكافٍ أو تام حتى، ولا يمنع أن يكون المدير هنا مبدعاً مع كل ما يحمل من صفات، أما لو كان مبدعاً فستأخذ إدارته شكلاً آخر غير الذي رأينا، فالإبداع يتم هنا إذا ما إستحدث هذا المدير أفكاراً جديدة أدت إلى قلب كيان هذه المؤسسة ورفعت إنتاجها بشكل إنقلابي، ثم أدت إلى جعلها أنجح المؤسسات حاضراً أو في منظور المستقبل القريب والبعيد مقارنة مع منافسيها، كأن يجعل أفراد مؤسسته هذه مثلاً يعملون بكل إخلاص وأمانة ونشاط ودأب، وإذا ما نجح في جعلهم يسعون بأنفسهم إلى تحسين هذه المؤسسة وإلى تحسين إنتاجها، وإذا ما نجح في جعلهم يقومون بأعمالهم كما لو كانت هذه المؤسسة ملكاً لكل واحد منهم فيؤلمهم تأخرها أو خسارتها، ويعز عليهم الإهمال في أداء أعمالهم فيها، فإنه إن نجح في ذلك فإنه يكون شخصاً مبدعاً لا محالة .

والأمثلة على الإبداع هنا كثيرة في إستحداث الأفكار فيما يتعلق بالمنتَج نفسه أو بالتسويق أو برفع طاقة الإنتاج أو تخفيض التكلفة وجعلها تصب في صالح التسويق، أو الإبداع في إعادة تشكيل المراكز الإدارية والتنفيذية وإضافة بعضها أو حذف الآخر منها، وما شابه هذه الإبداعات .

أنواع الإبداع والمبدعين

ولا يقتصر الإبداع على جانب من جوانب الحياة، بل إن الإبداع ممكن بل ومطلوب في جميع جوانب الحياة بدون استثناء، ففي الصناعة والتجارة والزراعة إبداع، وفي التدريس وإدارة شؤون المنزل وفن الطبخ وفن الزينة عند المرأة والرسم إبداع، وفي تطوير آلةٍ ما وعلم الفيزياء أو الطب أو غيرهم من العلوم إبداع، وفي القيادة والسياسة إبداع، حتى في الجريمة كذلك إبداع واسع .

وكما ذكرت فإن الإبداع قد يقتصر عند مبدع على فن واحد معين، فتجده يغذيه ويشبعه بأفكار جديدة وتصورات عديدة وخيال واسع، ويخلق له أفاقاً لم تكن معروفة وتصورات لم تكن معلومة من قبل، فيجعله ذا أثر بالغ وذا منفعة عظيمة في الحياة، ولكننا بالرغم من ذلك نسميه الإبداع المقيد .

وقد تكون عند إنسان ما ملكة الإبداع المطلق، وصاحب هذا الإبداع شخص فريد من نوعه ولا تجد منه في العالم إلا قليل، فلا نجد هذا النوع من المبدعين يقتصر إبداعه على فن واحد معين بل في كل علم أو فن أو أي شيء يتعلمه، والمبدع المطلق هذا لا تجده في العادة يطيق التقييد أو المنع أو الحصر، فهو فوق أن يكون مُقاداً أو مرؤوساً في علم أو في عمل ما يجيده، وتجده لا يلبث في علمه أو في عمله يسبق مرؤوسيه أو معلميه أو قادته، وهو فوق أن يكون مُقيداً بوظيفة معينة، إلا أن تتيح هذه الوظيفة لفكره العميق وخيالاته الواسعة وآفاق تصوراته متنفساً لها، ولذلك فليس لهذا المبدع المطلق إلا الوظائف القيادية المطلقة التي يحلق فيها كيفما يشاء، وغالباً ما تكون أراء هذا المبدع للناظرين ممن حوله غريبة للوهلة الأولى أو دائماً ولا يتصورون آفاقها، فآراؤه غير إعتيادية وغير رتيبة ولا تستطيع أن تتقيد بما هو معتاد من القوانين والأنظمة، لأنه لا يدرك بُعد آرائه وتصوراته ومداها إلا هو نفسه والعالِمين بخفايا الأمور، وأصحاب الرأي والمبدعين الآخرين .

وغالباً ما تجد المبدع المطلق يمتلك طاقة عظيمة تفوق غيره، ونشاطاً دائباً يجهده ويجهد غيره معه، وغالباً ما تجده يصطدم مع بيئته والناس من حوله ويحتك بهم ويتفاعل معهم ويشغلهم .

إلا أنّ هناك جانبين سيئين عند المبدع المطلق وهو أنه إذا همّ بالإبداع في علم أو فن لا يتقنه ولا يعلم خفاياه وأسراره، ولا يعلم أصوله فإنه بذلك سيحرفه عن أصوله، ويُحدِث في هويته ويغير من معالمه، والجانب الآخر السييء في المبدع المطلق أخطر بكثير، إذ لو كان لا يؤمن إلا بأهوائه ومصالحه فوق كل مصالح الناس أجمعين والبيئة، فإنه بذلك قد يحدث كوارث لا طائل لها في الأنفس والأموال والبيئة، وقد يجر الناس إلى حروب وعداءات وصراعات مريرة، وإلى فساد طاغٍ . أما إذا ما سَلِم المبدع المطلق الجهل بالشئ والإجرام والفساد، كان خيراً على الناس ورحمة لهم، حاضراً ومستقبلاً، للقريب والبعيد .

الإبداع والذكاء

الإبداع والذكاء صفتين متلازمتين للمبدع المطلق والمبدع المقيد بعلم أو فن، إلا أن درجة الذكاء عند المبدع المطلق تكون عالية جداً عن غيره، ولا يجوز للمبدع أن لا يكون ذكياً بأي حال من الأحوال، وليس كل ذكي مُبدع، ولكن كل مبدع يتمتع بدرجة عالية من الذكاء، أي أن الذكاء متلازم مع الإبداع تلازماً لا ينفك وليس العكس من ذلك .

أما ما هي العملية الفكرية المميزة التي يقوم بها المبدع، فإنها هي تلك القدرة على ربط كل أو أكبر قدر من المعلومات السابقة والأفكار المتعلقة بالعلم أو الفكر أو الشيء في ذهنه، المراد الإبداع فيه ببعضها، وربطها بأي معلومات متعلقة بهذا العلم أو الفن في المحيط الذي حوله، ثم ربط هذه المعلومات في آن واحد بأكبر قدر ممكن من المعلومات والأفكار والتصورات في إتجاه التطوير والتحسين والتغيير لهذا العلم أو الفكر أو الشئ، هذه القدرة هي عملية فكرية معقدة فائقة غير ميسورة لكل إنسان، بالرغم من أن كل إنسان قادر على أن يقوم بشيء منها .

إذ إنه كلما زادت قوة ربط المعلومات التي ذكرت ببعضها وبغيرها من الأفكار، كلما إزدادت وتعمقت وتأصلت عملية إستحداث الأفكار .

أما المعلومات فهي الأعمدة التي تقوم عليها العملية الإبداعية بأكملها، وهي الوقود الذي تعمل به الآلة، فكلما كانت وفيرة كانت العملية الفكرية أعمق وأنتج وأبدع، فالمبدع يبصر عادة ما لا يبصره غيره، وهو الذي يرى عيوب الأشياء ومحاسنها مجرد أن تقع عيناه عليها فيدركها، وقد تُستلهم عنده الأفكار في طرفة عين لتطوير العلوم والأعمال أو تعديلها أو تغييرها أو إعطاء أيّ رأي صائب فيها .

أهمية الإبداع

وعلى هذا فإن الإبداع كان ومازال ضرورياً للحياة، وتطويرها وتطوير الوسائل والأساليب فيها، ضرورياً على مستوى الفرد العادي والفرد المبدع، وعلى مستوى المجتمع والأمم بأكملها، وما كان من نهضة الأمم في العصور السابقة والحالية ماهو إلا نتيجة الإبداع وثمرته، وما كان من تخلف في النهضة فهو نتيجة لتخلف الإبداع وقصوره، أو نتيجةً لمحاربته وسدّ الأبواب في وجهه، أو تقييد حرية المبدعين، أو سوء إستغلالهم أو حتى محاربتهم، وما إنتشار الظلم العالمي والجريمة العالمية إلا نتيجة لإستغلال المبدعين وإستثمار نشاطهم في سبيل الجريمة والشر والتسلط على الشعوب .

بقي سؤال واحد مهم جداً لنهضة أي أمة، وهو هل من الميسور تنمية القدرة على الإبداع على مستوى شعبي أو جماعي أو على مستوى الأفراد أو المؤسسات ؟ والجواب على ذلك أن هذا الأمر ميسور جداً وممكن، بل هو قائم وحاصل التطبيق في الدول والمؤسسات التي تُعنى جيداً بنهضة شعوبها ومنسوبيها في إطار برامج خاصة تعنى جيداً بهذا الأمر بالتحديد، وهو تنمية الإبداع وتطوير القدرة الإبداعية .

وهنا نذكر أمثلة لبعض المبدعين المطلقين، فقد لا يُستحسن ذكر الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) كمبدع مطلق حتى لا يتم الخلط بين نبوته وقدرته على الإبداع المطلق، فهو نبي مرسل ومؤيد بالوحي وذو خلق عظيم .

وأجد عمر بن الخطاب وعلي بن أبي طالب خير مثال على المبدعين المطلقين، وأجد من العلماء الرازي وإبن سينا وإبن خلدون وإبن تيمية والشافعي وغيرهم كثير، أجدهم أمثلة جيدة عن الأشخاص المبدعين المطلقين، وعند الغرب ما يكفيهم كذلك من العلماء المبدعين المطلقين أمثال أديسون وديفنشي، وعندهم من المبدعين الإقتصاديين والسياسيين الكثير .

هناك تعليقان (2):

  1. الابداع لا يكون الا بالعمل المتواصل الجماعي في حالة الادارةفالمدير المبدع هو الذي يعرف كيف يدمج اراء الاخرين في ارائهليخرج بافكار جديدةتفيد الجميع.
    د.نوال عكور

    ردحذف
  2. مشكورة أختى الكريمة الدكتورة نوال على المشاركة وعلى رأيك الصائب، فما تفضلت به فهو يصب في أحد المحاور التي تتيح للإداري المبدع أن يُبدع فيها
    مع الشكر

    ردحذف