الإبـداع-الجزء الأول-

تعريف الإبداع

قد أخلص إلى تعريف الإبداع بهاتين الجملتين التي سأقوم بتفصيل محتواهما فيما بعد .

" الإبداع عملية فكرية يُستحدث بها أفكاراً تُحدث أعمالاً نهضوية أو تطويرية "

العقل والإبداع

أما كون الإبداع عملية فكرية، فهذا يعني أن الإبداع يتطلب العقل، والعقل ( أو الإدراك أو العملية العقلية) لا يتم إلا بوجود الدماغ عند الإنسان، لذلك لابد وأن نخلص أولاً لمعرفة ماهية العقل أو العملية العقلية، ومعرفة دور الحواس التي تمدّ دماغ الإنسان بالمعلومات وتنقلها إليه في إطار العملية العقلية، فالإبداع بحاجة إلى العقل، والعقل لا يتم إلا بالحواس ودماغ سليم يحمل معلومات سابقة عن المنقولات إليه ليستطيع تفسيرها .

فالبصر مثلاً ينقل "بما هو متاح له" هيأة الأشياء في البيئة وأشكالها وألوانها إلى الدماغ، وينقل كيفية حركة المخلوقات وإنفعالاتها، وكذا جميع الأحداث المرئية، فإذا فُقد البصر فقد الدماغ الحصول على هذا الجانب من المعلومات عن المحيط الذي حوله وما يدور فيه .

والسمع ينقل الأصوات كلها "بما هو متاح له" عن الأشياء التي تُحدثها، وأهم المنقولات من الأصوات هي الأحاديث المفهومة عنده، والألفاظ اللغوية ذات الدلالات، وكذلك الأصوات المرتبطة بإنفعالات معينة كالصراخ والبكاء مثلاً، بحكم أن اللغة تنقل إلى الدماغ أفكاراً وأخباراً ومعلومات ٍ كثيرة جداً، فإذا فُقد السمع فقد الدماغ الحصول على هذا الجانب من المعلومات عن المحيط الذي حوله وما يدور فيه .

والشم إحساس ينقل معلومات عن روائح الأشياء والأطعمة وغيرهم "بما هو متاح له"، والذوق مثله إحساس ينقل معلومات عن مذاقات الأشياء، واللمس مثلهم إحساس ينقل معلومات تتعلق بالبرودة والحرارة والألم والضغط الخارجي .

وأيّ من هذه الحواس إذا فُقدت فقد الدماغ الحصول على المعلومات عن البيئة التي تحيط به بما هو منوط بهذه الحواس من مقدرات، ويحتاج الدماغ حتى تتم هذه العملية العقلية إلى معلومات سابقة ليتمكن بهذه المعلومات تفسير ما ينقل إليه من معلومات عن طريق الحواس .

فإذا نقل السمع إلى هذا الدماغ كلاماً عربياً فإنه لا يقدر على إدراكه إذا لم تكن لديه معلومات سابقة عن اللغة العربية يستطيع بها تفسير ما نقل إليه، ولابد للدماغ من معلومات سابقة عن واقع الأشياء حتى يميز بها الحار من البارد، والصلب من اللين، والحلو من المر، والشميم من العفن وغير ذلك كثير .

فإذا ما استطاعت الحواس نقل الواقع إلى الدماغ وكانت هناك معلومات سابقة تفسر هذا الواقع تمت العملية العقلية أو العقل، ولذلك فإن ما ينقص المواليد الجدد أو الأطفال للعقل والإدراك هي تلك المعلومات السابقة لا غير، وإن ما ينقص الجاهل عن علم الطب أو الفيزياء أو الكيمياء هي معلومات سابقة تفسر ما تتحدث عنه هذه العلوم، وتتم عنده بهذه المعلومات العملية العقلية .

العلم والإبداع

لذا فإن الإبداع لا يتحقق بادئاً ذي بدء في علم لا يدركه الإنسان، لأنه يستحيل لمبدع أن يبدع في علم لا يدركه مهما سَهُل ذلك العلم، بل حتى لا يستطيع التعامل معه بأي حال من الأحوال، بل إن قدرة الإنسان على الإبداع تزداد كلما إزداد علمه وتعمقه وإحاطته بالفن أو بالعلم الذي يريد الإبداع فيه، وكذلك إحاطته بما يتعلق به من العلوم، عندها يكون قد أصبح مؤهلا ًلأن يبدع في هذا العلم أو الفن أكثر من غيره من بني الإنسان، أي أنه يصبح مؤهلاً لأن يستحدث أفكاراً جديدة فيه أو يعيد صياغتها صياغة جديدة لم تخطر على بال أحد من قبله، من شأنها – أي هذه الأفكار – أن تحدث تطوراً فاتناً صارخاً لهذا العلم أو الفن، أو أن تحدث إنقلاباً جذرياً في فهمه أو الإستفادة منه أو إستخدامه، فتُستحدث الأساليب وتُبتكر الطرق وتطور الوسائل للقيام بالأعمال وفي تنفيذها، فالإبداع هو إستحداث أفكار لم تكن .

الإبداع والحاجة

ولا تكفي زيادة العلم بالشيء للإبداع إن لم تكن للمبدع إرادة فيه، بل ترتبط الإرادة إرتباطاً مباشراً بالحاجة إلى الإبداع في ذلك العلم أو الفن، وقد ترتبط كذلك بميول المبدع للإبداع في ذلك العلم أو في غيره من العلوم، فالحاجة إلى إستحداث أفكار جديدة كلما إزدادت زاد الدافع إلى الإبداع، على قدر الحاجة إليه، ولكنه يتفاوت من مبدع وآخر، أما هذا التفاوت في القدرة عليه يعتمد على العلم والتعمق في العلم بالشيء، كما يعتمد على الإرادة المرتبطة بالحاجة، فترجح كفة الشخص الشديد الميل إلى الإبداع .

إن شدة الميل إلى الإبداع عند أحدهم قد لا تكفي لأن ترجحه عن غيره من المبدعين في ملكة إستحداث الأفكار، فهناك من يمتلك قدرة فائقة جداً على الإبداع تبرز ظاهرة في كل أمر يتعلمه ويجيد تعلمه وليس هو أمر مقتصر عنده على علم ما، بل إن الإبداع عند هذا أمر تلقائي لا يحتاج أن يتكلف فيه، في حين أن الإبداع عند غيره ينحصر فقط بميل إلى الإبداع في علم أو في فن معين .

علاقة الموهبة بالإبداع

وليست الموهبة هي الإبداع، ولا يسمى الموهوب في أمر ما مبدعاً، فالموهبة شيء والإبداع شيء آخر، فالموهبة هي ميل شديد إلى فهم وإتقان أداء أمر ما، والموهوب صاحب قدرة عظيمة على فهم وإدراك وأداء فعلٍ ما في جانب واحدٍ فقط من جوانب العلوم والفنون، وقد يكون الموهوب مبدعاً فيه وقد لا يكون، فلو كان مبدعاً فيه فيكون موهوباً ومبدعاً في آنٍ واحد، ولكن هذا لا يعني أنه صاحب قدرة على الإبداع في العلوم أو الفنون الأخرى إذا ما أتيح له أي للموهوب تعلمها. ولذلك فإن الموهوب المبدع يتفوق عن غيره من الموهوبين في نفس الفن .

الإختراع والإبداع

أما القدرة على تطوير علم أو عمل أو فن ما، لا تعني الإبداع فيه، بل إن فهم وإتقان العمل أو الفن جيداً وأداؤه بدقة وإخلاص يؤدي عادة إلى تطوير العلم أو العمل أو الفن وإظهاره في أحسن صوره، دون أن يكون هناك حاجة للإبداع، فإذا ما كان هناك إبداع فيه إضافة إلى الإتقان في أدائه فإن تطويره سيتضاعف أضعافاً كثيرة .

إن الإبداع من شأنه يستحدث أفكاراً جديدة لم تكن من قبل، تعطي العلم أو الفن أو العمل توسعاً وإنتشاراً وتشعباً، وتعطيه أفاقاً جديدة تؤدي غالباً إلى الإبتكار والإختراع فيه . مع التأكيد أن الإبتكار والإختراع والإكتشافات العلمية ليست هي الإبداع، فهذه كلها تحصل نتيجة للبحوث الكثيرة والتجارب العديدة والتعمق الشديد في علم أو فنٍ ما يُراد تطويره، أو إلى وضع الفرضيات التي قد يكون فيها شيء من الإبداع .

أما الإبداع نفسه فيما يتعلق بالإختراعات فهو إستحداث أفكار جديدة في كيفية القيام بهذه البحوث والتجارب، أو في كيفية إستغلال الأشياء للحصول على نتائج أفضل في الإكتشاف والإبتكار والإختراع، أي أن الإبداع عملية فكرية تقوم فوق كل العمليات الفكرية الأخرى بحكم أنها هي التي تصنع الأفكار وتستحدثها، ولنضرب أمثلة للإبداع، فأين الإبداع أو موقع الإبداع للمبدع في إدارة مصنع أو مؤسسة صحية أو تربوية أو علمية أو غيرها ؟

إن مدير هذا المصنع أو مدير هذه المؤسسة أو تلك قد يكون رجلاً عالماً بالإدارة، وقد يكون رجلاً موهوباً في فن الإدارة، وقد يكون رجلاً مخلصاً في الأداء الإداري ودقيقاً في تنفيذ كل التعليمات الإدارية وتطبيقها، وقد يكون متمرساً جداً عالماً بخفايا الإدارة وخفايا عمل مؤسسته فيعلم أين مواضع القوة وأماكن الضعف في المؤسسة، فتكون عنده القدرة لتحسين أوضاعها بما يمتلكه من علم، وبما تحتاجه هذه المؤسسة لتطويرها وزيادة إنتاجها، وقد يكتشف أو يخترع فكرة أو أفكاراً يطور بها هذه المؤسسة أو أحد جوانبها ويزيد فاعليتها، كل هذه الصفات الشخصية الإدارية تؤدي إلى إنتاج عمل مثمر وناجح ومتقن، بما هو متاح لهذا المدير من علوم وقوانين إدارية وفن في الإدارة وإخلاص في أدائها، أما أين موقع الإبداع في كل هذه الصفات ؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق