لقد صعَدَت "درة عين الأمة الإسلامية" مصر أول عتبة من عتبات الحرية بعد تونس الحبيبة، في إطار ثورة فريدة من نوعها، ثورة تحررية خالصة، وليست كأي ثورة قبلها مما كان يتم تدبيرها من أمريكا لطرد عميل بريطانيا لتؤول ولاية هذه الدولة الحاكمة أو تلك لها، أو مما كان يتم تدبيرها من بريطانيا أو فرنسا ضد العميل الأمريكي.
هذه الثورة التحررية تتميز من جانب آخر وتختلف عن جميع الثورات في العالم بميزات، فهذا الشعب الثائر، ليس كشعوب أمريكا الجنوبية أو الشعوب في وسط وجنوب أفريقيا أو غيرهما، فهو شعب مسلم،، وروحه إسلامية، وقناعاته أصلها إسلامي، ومطالبه التي تحيك داخل صدره مطالب إسلامية، وبلاده بلادٌ إسلامية، وتاريخه إسلامي، ولذلك فإن ثورته بالرغم من أن بعضهم كان يحمل العلم المصري القومي الوطني، إلا أن قلب حامله وعواطفه تجيش بوحدة إسلامية عالمية، ووحدة أرض وشعب مع بلدان المسلمين الآخرين.
ولو سألت الشعب الثائر وتحققت قليلاً في مطالبه لوجدته يريد حياة إنسانية كريمة، ويريد انعتاقاً من عبودية الفقر والجوع والمرض والظلم والقمع، ثم لو وضعت خيارات عدة أمام شعب مصر وتونس وغيرهم في كيفية هذه الحلول وبأي مبدأ، بكيفية شيوعية أم رأسمالية أم إسلامية، لرأيت اللهفة للإسلام ولعز الإسلام في أنظار هذه الشعوب الثائرة، ولو مارست معهم بعض المكر عن طريق استفتاء، أو منبر من لا منبر له لتسأل عن موقع إسرائيل في قلوبهم، لوجدت روح الجهاد تصرخ في نفوسهم بالجهاد ضد إسرائيل وأمريكا وأوربا وغيرهم، حتى ولو افتدوا بكل قطرة دم منهم أو من أبنائهم، أو لو افتدوا بكل غال ونفيس يملكونه.
هذه هي حقيقة الشعوب الإسلامية، فهي ثائرة دائماً داخل نفوسها، ثائرة بالإسلام ومن أجل الإسلام، وفداء للإسلام، وقد تأخرت ثورتُها عقوداً كثيرة بسبب القمع والمكائد الإستخباراتية الأجنبية في المقام الأول والدهاء السياسي الخبيث، ولم تقدر أن تتنفس وتبوح بثورتها الداخلية، حتى وجدت الآن المتنفس الصعب الذي أخرج أرواحها عنوة من داخل صدورها، وانتزعه انتزاعاً على خيفة ورَوَع.
واقع الشعوب الإسلامية هذا العقلي والنفسي كما وصفناه لا ولم يخفى عن عيون الاستخبارات الأمريكية أو الأوروبية أو الإسرائيلية المتربصين، ولكن هؤلاء لم يكونوا يعلمون متى ستكون ساعة انفجار هذه الشعوب ووقت انطلاق ثورتها وماهية الشرارة الأولى لها، ولذا،، فإن بعض هؤلاء المتربصين قد أعد عدته ليوم الثورة هذا، بل وقد خطط له منذ سنوات عديدة، وهذا ما كنا قد أدركناه من يوم انطلاق القناة الفضائية "الجزيرة" البريطانية الصنع، منذ حوالي خمس عشرة سنة، التي كان همها ووظيفتها التي اُعدت لها هي أن تعبث بعقول المسلمين العرب، لضرب الحب والافتتان والإعجاب الذي كان يحمله العرب في قلوبهم لأمريكا، ونهضتها، وقوتها، ولذا فهي قد عملت على ضرب هذه المشاعر المتجهة لأمريكا، وعملت جاهدة بنجاح في كشف خطط أمريكا وفضحها في المنطقة الإسلامية، بعد أن تحول معظم ما تبقى من حكام العرب إلى عملاء أمريكيين، بعد أن كانت قبلتهم لندن.
وكم كانت فرحة بريطانيا بخروج والي فرنسا زين العابدين، وكم كانت الفرحة عظيمة بثورة شعب مصر الشرفاء واندحار حسني مبارك الأمريكي، فقد كانت الضربة آنذاك موجعة لبريطانيا حينما طُرد واليها الملك فاروق من مصر، وآلت الأمور لأمريكا وجمال عبد الناصر، وتم سحب البساط الثمين من تحتها الذي ضحت من أجله كثيراً،، والآن كم كانت فرحة بريطانيا عظيمة بثورة مصر وتونس، ظهرت فرحتها جلية من خلال أداتها المجانية العظيمة "قناة الجزيرة"، فدفعت القناة لتتولى أمر الثورة المصرية إعلامياً، فقامت قناة الجزيرة وأعانت الثورتين التونسية والمصرية أيما عون، ونفخت، وما زالت تنفخ في نارها كلما آلت النار إلى السكون، وهو في ظاهره عمل نبيل منها، وإخلاص وحب للثورة الشريفة، لا تبتغي قناة الجزيرة منه إلا وجه الله، ونوال رضوانه وبلوغ جنات الفردوس الأعلى.
طبيعي أن هذا التهكم يُدرك من خلاله أن الذئب لا يهرول عبثاً، فإلى أي هدف تعمل الجزيرة بكل قوتها، وهي تتكلف بكل هذه التكاليف المادية والبشرية في سبيل إذكاء روح الثورة في البلدان الإسلامية؟؟
بالتأكيد تعلم قناة الجزيرة البريطانية ونعلم بالطبع أن الشعوب الإسلامية قد طفح كيل القهر والفقر والظلم والعبودية بها، ولا بد للشمس مهما طال غيابها أن تشرق، فليست ثورة الشعوب الإسلامية اليوم من صنع بريطانيا أو غيرها، بل ليخسئوا، فالأمة اليوم أخذت بمجموعها زمام المبادرة بأيديها لثورتها الكبرى.
أما بريطانيا وحلفاؤهم فقد علِمناهم وما صنعوه في بلدان المسلمين حقاً،، فقد استعبدونا سابقاً وأذلونا وأهانونا في أموالنا ودمائنا وأرضنا وأعراضنا، فقد عاثت بريطانيا وحلفاؤها الأوربيون في بلدان المسلمين الفساد والقتل والتدمير والحرق والنهب والسلب والسبي، حتى تمكنوا فيما بعد هم وأحلافهم من إسقاط دولة الخلافة رأس عزنا ومجدنا، وتاج أمرنا، وتمكنوا من احتلال بلداننا وتقسيمها.
أما اليوم فتعمل بريطانيا بأداتها الجبارة الساحرة "قناة الجزيرة" على استعادة أمجادها وسلطانها على البلاد الإسلامية بكيفية سياسية، وبدهاء ومكر عظيمين، فهي تُركب الشعوب السفن التي يحبونها ويعشقونها، ولكنها "قناة الجزيرة البريطانية" تقود هذه السفن إلى الاتجاه الذي تهواه هي.
لقد أعطت قناة الجزيرة ثورتي تونس ومصر حقها في الإعلام وأبلت فيه بلاء حسناً، ولكنها عملت وتعمل بمثابرة منقطعة النظير ليل نهار إلى قيادة هذه الثورة إلى بلاد الديمقراطية والفكر الديمقراطي ونظامه البائس الماكر اللعين.
لقد روجت قناة الجزيرة للثوار والشعبين التونسي والمصري الديمقراطية بحنكة ودراية، وصورت الديمقراطية لهم ولكل من يتابع الأحداث في تونس ومصر وغيرها، صورتها لهم أنها الإله الذي هو رب العدالة ورب الحرية ورب الثورة ورب الحق ورب العزة ورب الكرامة، وصورت الديمقراطية لهم أنها هي رب الفقراء والمساكين، وأنها الإله الذي يُدخل الجنة في الدنيا بغير حساب، وربما في الآخرة أيضاً، وهي إله الخير وعدو الشر، وهي الإله الذي يعطي حرية الرأي وحرية الفكر، وهي الإله المطلق الذي يُعطي ويمنع ويوزّع ويُشبع، ويخفض ويرفع، وهي هي نصير المظلومين وقبلة المقهورين، وهي هي ذات العصا السحرية التي تضرب الحجر فتنبثق منه عيون الماء، وهي الإله الذي يُعتق الناس من العبودية، وهي سوبرمان.
ولذا بات المشاهد لا يسمع في قناة الجزيرة وحتى غيرها، لا يسمع بين كلمة ديمقراطية وديمقراطية إلا كلمة ديمقراطية، حتى كادت قناة الجزيرة تُسمي الخبز الذي يأكله الناس ديمقراطية، وعملوا جاهدين على إلقام هذا الإله في أفواه الناس بالقوة إلقاماً، المشاهدين منهم والثائرين، حتى بات العجائز والأطفال الذين لم يفكوا الحرف، باتوا يرددون كلمة ديمقراطية وهم لا يعرفون ولم ولن يعرفوا معناها مطلقاً.
لقد كان من الطبيعي من خلال استفراد قناة الجزيرة بالاهتمام والبث المباشر للثورة التونسية والمصرية واليوم اليمنية وغداً كل البلاد الإسلامية بإذن الله، من الطبيعي ستجدها هي التي ستطعم الناس خبز الديمقراطية، وهي التي ستلحفهم بلحاف الديمقراطية، وهي التي ستسكنهم بمساكن الديمقراطية الكاذبة، وهي التي ستبني لهم دوراً وقصوراً ديمقراطية،،، فتكون بريطانيا وقناتها الجزيرة بهذا النجاح الباهر قد ألبست الناس ثوباً من غير جنسهم، وخلقت لهم مطلباً لحاضرهم ومستقبلهم صنعته هي لهم، خلاف مبدئهم وعقيدتهم وخلاف نظام الإسلام وحكم الإسلام الذي يغشى قلوبهم، وتكون بهذا أوقعتهم في فخها، يقبّلون حبائل الفخ وهم لا يشعرون، وبالتالي تكون قد أحكمت قبضتها عليهم وعلى الأجيال التي بعدهم وصنعت لنفسها عالماً من العبيد الجدد الذين أتوها زحفاً وهم صاغرون.
لقد كان أبطال الثورة التونسية والمصرية وغيرهم، كانوا هم الشعوب ولا زالوا، ولكن الفيلم الذي عرضته قناة الجزيرة عن الثورة لم يكن بطله إلا الديمقراطية والدعوة للديمقراطية النتنة.
يقول الله سبحانه وتعالى في سورة الممتحنة2
{إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاء وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ }