بالرغم من كل عمليات التضليل العالمية لكافة البشر في هذا العصر على جميع
الأصعدة الفكرية والعملية والتطبيقية، وبالرغم من العمل الجاد المركّز على صرف
الناس جميعاً عن فكرة الإيمان بوجود الله، إلا أن فطرة الإنسان عند كل الأجيال
المتتابعة قد غلبت وهزمت كل محاولات المفكرين المدّعين بعدم وجود الله سبحانه
وتعالى، حتى قد هزمت الفطرة المفكرين أنفسهم وهزمت أفكارَهم وإدعاءاتهم، فقد
توجهوا وقت الأزمات والفزع مكرهين إلى صاحب القوة الأعظم خالق السموات والأرض،
طالبين النجاة مما تعرض لهم من سوء.
إلا أننا نقول أن ليس كل من صدّق أو آمن بوجود الله سبحانه وتعالى قد آمن
بأن محمدَ بن عبد الله عبده ورسوله، وآمن بأن القرآن وما قبله من الكتب السماوية
هي مُنزلة من عند الله، لأن الرسل والكتب السماوية شيء مادي، وهي في حاجة إلى دليل
عقلي أو نقلي قاطع يثبت علاقتهم بالله؛ وهذا ما كان من صحابة الرسول محمد صلى الله
عليه وسلم قبل أن يكونوا صحابته، وممن أسلم من بعدهم، عندما ادعى محمد بن عبد الله
النبوة في مكة، وادعى أن هناك قرآناً يَنزل عليه، فما كان منهم إلا أن أخذوا
بالتوثق من كلامه ومن صدق إدعائه بالعقل، وهم رجال الفطنة والذكاء والبلاغة
والفراسة، وهم علماء اللغة العربية وأصحابُها، وهكذا كان، فلم يدخل الإسلامرجل منهم
حتى توثق من أمر محمد بن عبد الله، وتوثق من صدق ما ادعاه، فكانوا يمحصون في كل
كلمة أو آية تنزل، وكانوا يراقبون أفعال سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وأقواله،
ويتحققون ما إذا كان يسعى وراء هوى أو دنيا أو منصب أو مُلك.
كان رأس الأمر عند قريش وغيرهم من العرب هو الكلام المُنزل الذي يتلوه محمد
بن عبد الله، الذي كان من شأنه أن يكون الرسالة إلى الناس التي تبلغهم أمر دينهم
أولاً، وثانياً المعجزة التي تثبت أن محمداً نبيٌ مرسل من عند الله، ومن هنا جاءت
أعلى درجات التمحيص والاختبار لمحمد بن عبد الله، ابن قريش وفتاها وربيبها،،
والتمحيص للآيات التي يدعي أنها منزلة من عند الله.
فهذا محمد الذي يعرفه كل رجال قريش ونساؤهم وفتيانهم، ويعرفون مقدراته
العقلية والنفسية، وقدراته اللغوية والبلاغية والإبداعية، ويعرفون طبيعة أحاديثه،
شأنه شأن أي رجل منهم أو امرأة أو طفل، قد فاجأهم اليوم بكلام لم يعهد العرب كافة
في الجزيرة العربية وخارجها مثله، أو كلام على نسْقه، حديث عربي ذو بلاغة متناهية،
يعجز كل العرب إنسهم وجنُهم، بما فيهم محمدٌ ربيبهم عن قول مثله، فقد كان منذ
ولادته ثم طفولته ونشأته واشتداد عوده حتى رجولته، لم يكن يوماً يُحسن شيئاً من
الشعر أو النثر، أو يُحسن حفظه أو ترديده، ولم تكن له تلك الميول لمثلها أو لما
يشابهها.
ها هو محمد بن عبد الله قد جاء اليوم بحديث عربي بلاغي، موضع عزة العرب،
ومداد فخرهم، ومنبر أحاديثهم، وساحة معاركهم الأدبية، جاء بآيات عربية يتحدى فيها
العرب الأقحاح وشعراءهم وأدباءهم وعلماءهم أن يأتوا بحديثٍ مثله في تمامه، وحسن
ألفاظه ووفرتها وتطابقها مع معانيها، وفي تصويره الفني، وإبداعه القصصي، وفي طباقه
وجناسه، وتشبيهاته، ومجازات ألفاظه، وتمام إيجازه، وفي ضرب الأمثال، وتركيب
الجُمل، والعلم الوفير، وأخبار السابقين والحاضرين، ناهيك عن أنه حديث يضم للناس
في طياته فكراً سياسياً واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقياً عالمياً، بل ويشير إلى وحدة
فكر من نوع خاص، ويَعِد بصناعة أمة عظيمة عادلة ذات أخلاق رفيعة، ويَعد بنهضة
دَوْلية، دولة ذات قوة وعزة وانتشار، أي لم يكن القرآن الذي جاء به محمد مجرد حديث
موعظة، أو حديث صلاة وصيام، بل كان يشير إلى مشروع عالمي عظيم، ومستقبل عظيم.
هذا القرآن الذي أعجز بنصوصه بُلغاء العرب وأدباءهم وفصحاءهم كافة، أعجز
كذلك مفكريهم بفكره، وأعجز كذلك سياسييهم ببعد نظره، وشموليته، ووضوح فكرته،
وجاذبيته، وطهارة مطلبه، وبالتالي صلاحيته لأن يكون نواة دولة عظيمة.
لقد كان من المهم معرفة صاحب هذا القرآن وقائله، فلم يكن أمام قريش وغيرهم
من العرب في تقصي حقيقة هذا القرآن إلا أحد ثلاث حقائق، فإما أن يكون هذا القرآن
من عند محمد، أو هو من عند العرب أو أحد العرب، فالقرآن عربي مبين، أو أن يكون كما
يدعي محمد أنه من عند الله سبحانه وتعالى.
أما ما يُدّعى من أن هذا القرآن من عند محمد، فقد كان إدعاءً غير منضبط
ومستحيل مع ما تعرفه قريش عن محمد ابنهم وربيبهم، فلم يقل به أحد منهم، لأنهم
يعرفون محمد وقدرته وفصاحة لسانه، وأسلوب حديثه، بل إن هذا الحديث معجز لا يتأتى
لبشر أن يأتي بمثله، حتى العرب الآخرين في كافة بلاد العرب لم يدّعِ أحد منهم أنه
قال بمثل ذلك القول أو شبيهه، أو ادعى أنه باستطاعته الإتيان بمثله، بل أجمعوا أن
هذا القرآن مُعجز وليس بقول بشر، وذلك لعلمهم بمستوى فصاحة اللسان العربي، وعلمهم
بمنتهى القوة البلاغية عند العرب كافة، التي باتت أقل بكثير من قوة بلاغة القرآن
وفصاحته والعلم الذي أتى به.
وبالتالي حق لنا أن نقول: إن لم يكن العرب هم الذين أتوا بالقرآن، ولم يكن
محمد بن عبد الله هو الذي أتى بالقرآن، فمن أتى بالقرآن إذن؟
وهنا تتجلى الحقيقة بإجماع العرب كافة آنذاك، المُقرّين لدين محمد أو حتى
الرافضين له، أن هذا القرآن إنما هو ليس بقول بشر، وبالتالي ليس من عند محمد أو من
عند أحد من العرب على الإطلاق، وهو دليل على أنه من عند الله على لسان من أنزل
عليه، وهو محمد بن عبد الله صلوات الله وسلامه عليه.
ومن هنا كان الأمر واضحاً جلياً أن هذا القرآن إنما هو كتاب إلهي منزل من
عند الله،، وأن هذه الحقيقة إنما هي إثبات قطعي ودليل عقلي قاطع لحقيقة أخرى واضحة
جلية، وهي نبوة سيدنا محمد بن عبد الله الطاهر الصادق الشريف الأمين سيد الخلق
أجمعين، أكرمهم خلقاً، وأطهرهم نسباً، وأعفهم فعلاً، وأوسعهم حلماً، صلوات الله
وسلامه عليه وعلى آله الطاهرين المتبعين لدينه والقائمين بحق دعوته، وعلى صحبه
أجمعين، ومن اتبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
قال الله سبحانه وتعالى في سورة النحل آية 103
ولقد نعلم أنهم يقولون إنما يعلمه بشر لسان الذي يلحدون إليه أعجمي وهذا
لسان عربي مبين
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة يونس- آية38
أم يقولون افتراه قل فأتوا بسورة مثله وادعوا من استطعتم من دون الله إن
كنتم صادقين
قال الله تعالى في سورة الفتح 29
مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى
الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً
مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَاناً سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ
ذَلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ
أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَى عَلَى سُوقِهِ يُعْجِبُ
الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْراً عَظِيماً
وقال الله تعالى في سورة الأعراف 158
قلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً
الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِـي
وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي
يُؤْمِنُ بِاللّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ
السلام عليكم
ردحذفدكتور محمد سعيد التركي
جزاك الله عنا كل خير، فأنا من متتبعي هذه السلسلة واجد لك أسلوبا متفردا يمزج بين الادب والعلم
الا اني لم أرى هذا التجانس في هذه الحلقة والتي كانت أدبية محضة من جهة
من جهة أخرى ألا ترى يا دكتور ان حضرتك حصرت موضوع اثبات ان القرآن من عند الله في قضية واحدة فقط وهي الاعجاز اللغوي ؟؟
لا أنكر أنه اعجاز فعلا لكن أعتقد اننا تجاوزنا هذا الامر في عصرنا الحالي وأصبح الاثبات العلمي اكثر توقيعا في نفوس المسلمين وغيرهم
في انتظار وجهة نظرك. وشكرا
وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
ردحذفأختي الكريمة أم الخير، نور الله قلبك، ونفعنا الله وإياك بالعلم النافع، وثبتنا على الإيمان الحق واتباع الإسلام والدعوة إليه
عندما جاء الرسول محمد صلى الله عليه وسلم برسالته كان كل اعتماده في إثبات حقيقة نبوته ورسالته على الحديث الذي أتى به كشيء أساسي، وهو نصوص القرآن الكريم، ولذلك فإني بدأت القصة من أولها كما جاء في كتب الأصول عند علماء المسلمين وفقهائهم، فإيماننا موصول بإيمان من قبلنا، لأنهم هم الذين رأوا سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وهم الذين سمعوا منه، وهم الذين نقلوا عن لسانه الطاهر، رضي الله عنهم أجمعين، فحقيقة القرآن اللغوية "المعجزة" والفكرية كانت هي الدليل للناس أجمعين في أيام رسالته على صحة إدعائه بأعظم أمر وأعظم منزلة وهي النبوة، ولا زال الأمر كذلك، كل يوم يُكتشف شيء جديد في علم اللغة العربية من القرآن الكريم ويثبت عجز البشر على الإتيان بمثله، ولا زالت اللغة العربية في القرآن سحر يسحر عقول أرباب اللغة العربية اليوم كأمس، من جهة، ويثبت لهم حقيقة تحدي القرآن لسحَرة اللغة العربية العرب في الجاهلية ، ومن جهة أخرى فقد كان وما زال سحر يسحر عقول وأفهام أرباب السياسة، وكذا أرباب علم الإجتماع وعلم التربية والعلوم الإنسانية وكل علم من العلوم، حتى تفتقت أخيراً علوم الطبيعة بتطور العلوم التكنولوجية عن معجزات جديدة أصبحت غذاء لمتعطشي علم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا وغيرها
ولذلك فإن العقل الإنساني المسلم وغير المسلم في حاجة إلى كل الحقائق للإيمان بأن القرآن من عند الله وليس من عند محمد، وأن محمد بن عبد الله عبده ورسوله، كما هو في حاجة إلى كل حقيقة تثبّت إيمان الإنسان وتحافظ عليه وتغذيه، أرجو أن أكون وفيت إجابة سؤالك، فإن لم يكن، فأنا على إستعداد بالمزيد بصدر رحب وراضي
أسأل الله أن ينفعنا وإياك بالعلم النافع، ويوزعنا أن نتبع الحق ونكفر بالباطل، ويحيينا على الإسلام ويميتنا عليه
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته