هل يعلم الثوار مطالبهم اليوم؟
بناء على ما سبق فإننا نستطيع أن نقدّر المستوى العقائدي والفكري والثقافي للأمة الإسلامية العربية الثائرة اليوم، وأن نقيّمَ مطالبَها التي تطالب بها اليوم دون الحديث عن أوضاعها الاقتصادية والبيئية والصحية والاجتماعية المنهارة.
بالتأكيد فإن الشعوب الإسلامية العربية اليوم تطمح بطبيعة الإنسان البسيط تحقيق سعادتها التي تفتقدها، والتي تبدأ من إشباع حاجاتها العضوية الحتمية من المأكل والمشرب، ومن إشباع ميول غرائزها التي فطرها الله عليها، وتنتهي بما تترتب على هذه السعادة من أمن على النفس والمال والولد، ومساكن تؤويها، وأعمال إنتاجية تشعرها بأمنها وأمن يومها وأبنائها والأزواج، وتشعرها بأمن مستقبلها، وباستقرار اجتماعي مع أهلهم وأقاربهم، وبأمن على الأرض التي يعيشون بها وعليها، وتحقق موجبات طلب العلم ووسائله لهم، وتوفر لهم الخدمات التي تكفل لهم عيشاً كريماً من مواصلات وصحة وتعليم وغيره، ولكن تحت مظلة من العزة والكرامة وليس تحت مظلة من القهر والمنّة والكفاف، وتكفل لهم شعوراً بسلطانهم على أنفسهم وممتلكاتهم وسلطانهم على الأرض التي يعيشون عليها، وسلطانهم على ما يعتقدون من فكر.
إلا أن الإنسانَ الحرَّ عادة ينطلقُ لتحقيق مطالبه من خلال حريته، وليس تحت مظلة عبوديته لأحد من الخلق، من الحكام أو غيرهم، فإشباع حاجاته العضوية وغرائزه ليست هي التي تكمل سعادته وتتمها، بل هي شيء أساسي ينطلق منه لتحقيق السعادة، في إطار حريته، لذا خلق الله الإنسان حراً، وأراد له أن يبقى حراً من عبودية أحد من البشر، وهكذا كان إرسال الرسل يخدم حرية الناس أولاً ويخدم كرامتهم وعزتهم وإشباع حاجاتهم العضوية وغرائزهم، ولم تكن الرسالات لأن يكون السلطان والكلمة والرأي والقوة للأغنياء والأقوياء والتجار، أي ليس لأن يكون لأحد سيادة على غيره من البشر من دون الله.
هذا ما تعلمه المسلمون من الله سبحانه وتعالى ومن سيدهم محمد صلى الله عليه وسلم، ومن قرآنهم الذي كما تنطق آياته بالرحمة والخير تنطق آياته بالقوة والجبروت على الظالمين، وهذا الذي رباهم عليه الإسلام. بهذا المفهوم امتلأت قلوب المسلمين وأفئدتهم، فقد تعلموا أن لا يكون لأحدهم سيادة على أحد منهم من دون الله، وتعلموا أن لا يكون لأحد سلطان عليهم إلا بأمر من الله وإرادة منه سبحانه وتعالى، وهذا ما أنبنى على قواعده عاداتُ المسلمين وتقاليدُهم وأعرافُهم، وهذا ما رُويت به أرواحُهم الحرة، وهذا ما صنعوا به تاريخَهم.
ولكن بعد أن مال عليهم الزمان لتقصيرهم سقط رأس الهرم على قاعدته، وتهاوت أركانه على عموده، وباتوا يغوصون في وحل مَقِيت، وباتت شخوصهم بلا هوية، وحياتهم بلا طعم، وبلا سيادة ولا حرية ولا سلطان.
والآن وقد انفتحت أبواب القدر كما يقولون وقامت الثورات التحررية، وجد الناس أنفسهم كشعوب في مخاض لم يحسبوا حسابه، ولم يرسموا له خطة، ولم يُعدّوا عدته، ولم يهيئوا المطالب التي يجب أن يطالبوا بها، أو الرايات التي يجب أن يرفعوها، فخرجوا بمطالب عفوية مخالفة لهويتهم الحقيقية والإرث العقائدي الذي يحملونه، وتنم عن جهل سياسي طبيعي، فقامت الشعوب بالمطالبة بإسقاط النظام دون معرفة البديل، أو قاموا بأعجب من ذلك بالمطالبة بالديمقراطية، دون معرفة ماهية الديمقراطية، وقاموا يطالبون بالحرية، وبالعدالة والمساواة، وبالمطالبة بمحاربة الفساد، وبمطالب عديدة تبرز فيها وعود عظيمة وهي في حقيقتها مكائد يُجهل حقيقتها، ولهذا السبب توقفت ثورة تونس ومصر وليبيا عند سقوط رأس النظام، دون أن يسقط النظام، لأن النظام يجب أن يحل محله نظام آخر، وكون هذا الأخير غير معلوم للناس بعد، توقفت الثورة عند هذا الحد، وأصبح اللغط والآراء المشرقية والمغربية هي سيدة الموقف.
فالشعوب الإسلامية العربية تم تغييبها تماماً عن المطالب الحقيقية للمسلمين وكمسلمين، وهو المطلب بسيادة الإسلام وشرع الإسلام وحكمه في صورة دولة الخلافة وقيام دولة الخلافة وإعادة الحكم بما أنزل الله، ناهيك أن الشعوب الإسلامية العربية لم تعتاد منذ عقود طويلة أن تثور وتضع مطالب وتخطط لها، وهذا أمر طبيعي، حيث أن الشعوب اليوم بأجيالها الحاضرة لم يسبق لها أن تر شيئاً من الإسلام مطبقاً في واقع الحياة، ولم تر له أثراً في رعاية شؤون الناس، ناهيك عن التحريف الذي تعرض له فهمهم لدينهم، الذي كان أبطاله علماء السوء والمفكرين المندسين والعلمانيين وغيرهم.
أي أن الشعوب الإسلامية العربية الحاضرة تعاني من غياب التصور والفهم العقائدي للإسلام، والفهم الشرعي عن نظم الإسلام الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والقضائية والإدارية والتربوية، وعن نظام الحكم في الإسلام وغيرها، وتعاني من جهة أخرى من غياب الفهم السياسي السليم، ولذلك لم تعرف الشعوب بعمومها عندما ثارت ما عليهم المطالبة به، إلا قليلاً منهم ممن أشاح الإعلام كاميراته عنهم وميكروفوناته.
وتعاني الشعوب الإسلامية العربية من غياب الفهم السياسي والتعامل مع السياسة، ومن قصور بُعْد النظر السياسي، وقصور الوعي بواقع الحضارات الغربية والشرقية مقارنة بحضارة الإسلام، كان كل ذلك بسبب الكبت والكذب الذي مورس عليهم من الحكام المجرمين والتغييب السياسي، ومحاربة كلمة الحق سماعها وقولها.
لذلك لم تدرِ الشعوب الثائرة المطلب الذي يجب أن ترفع شعاراته لا من ناحية عقائدية ولا من ناحية سياسية، مع أنها ترفع مطالب تهدف بها إلى الحرية (بالمفهوم الإسلامي) والعزة التي تعلموها من خلال الفكر الإسلامي وتراثه وتاريخه ومجده، فنجدهم يرفعون أعلام الدولة التي تحكمهم ظنا منهم أنها هي التي ستنجيهم وتنهض بهم، ولو علموا أن تلك الرايات هي التي ارتضاها لنا الكافر المستعمر وهيأة الأمم المتحدة وقرروها لتثبيت أركان تقسيم بلدان المسلمين وفرقتهم، لعلموا أن تلك رايات هزيمة لا رايات نصر ولا تمكين، ولعلموا حرمة رفع تلك الأعلام الاستعمارية، ولما وضعوها فوق رؤوسهم، بل وضعوها تحت أرجلهم.
وترى الشعوب الإسلامية العربية اليوم في ثورتها المحافظة على الوحدة الوطنية لبلدانها كما هي (تونس، مصر، ليبيا، سوريا، اليمن) والتي هي محدودة بحدود الأمم المتحدة كما في الخارطة الجغرافية، ظنا منهم أن ذلك يحافظ على وحدتهم وعزتهم وتحررهم، وفي الحقيقة أن هذه المطالبة من ناحية علمية وسياسية لا تفي ولا بأي بشيء من التحرر من عبودية الكافر المستعمر (العدو الأصلي) ووليه الحاكم ولا تعد بعزة ولا كرامة، لا من ناحية سياسية ولا عسكرية ولا اقتصادية ولا اجتماعية ولا قضائية ولا حتى إدارية.
فالمحافظة على هذه الكيانات الوطنية القائمة هي مطالبةٌ تعزّزُ التقسيم الذي قام بها الكافر المستعمر في حق وحدة بلدان المسلمين كافة، وهي مطالبة تعزّز جعلَ البلادِ محرومةً من خيرات بلدان المسلمين المحيطة بها ومن التبادل التجاري وتبادل العلم الصناعي والزراعي بين علمائها ومفكريهم، وهذا ما أراده الكافر المستعمر من صنع كيانات وطنية وقومية تفكك به وحدة المسلمين وتقطع بها أوصال بلادهم الفسيحة الغنية، وتُضعف بها عظيم قوتها الوحدوية، وهاهي شعوب المسلمين العربية الثائرة اليوم تطالب بالمحافظة على ما صنعه الكافر المستعمر ببلدان المسلمين ومقدراتهم ونهضتهم.
إن المطالبة بالمحافظة على الوحدة الوطنية، تُخدِّرُ الثوارَ وتُعمي الثورة المباركة الطاهرة، ناهيك أنها لا تحقق شيئاً من التحرر لهذه الشعوب من ناحية عقائدية كذلك، وهذا الأهم، بل إنها تُرسيها في أحضان العقيدة الرأسمالية بشكل أعمق، وتبعدها عن الدين الإسلامي بشكل أوضح، وتتيح للعلمانيين والليبراليين (أعداء الإسلام والشعب وأولياء الغرب) أن يبقوا في مناصبهم ويحافظوا على شركاتهم ومصالحهم وعلى النظام الذي يخدمهم، وأن يُملوا على الناس ما كانوا يُملون عليهم من قبل من كفر وإلحاد، ومن صرفٍ عن نظام الإسلام وشريعته وعدله، كما نرى الآن في تونس ومصر.
أما المطالبة بالديمقراطية في الثورات، أو لنقل ما سلط الإعلام كاميراتِه عليهِ من مطالباتٍ للديمقراطية والمطالبينَ بها، فهو كذلك، فهي ليس إلا ما سلط الإعلام الغربي كاميراتِه عليه، وليست الديمقراطية إلا فكرة وهمية من صنيعة الغرب، وليست هي إلا وهْمٌ، ومما يستحيل تطبيقَه على الرغم من ضلال فكرتها،، أما ما تراه الشعوبُ المقهورة اليوم وما رأته بالأمس من نهضة صناعية وعمرانية ورفاهية عند الغرب أو الشرق فهي ليس مما صنعته الديمقراطية، وإنما مما صنعه الثراء العظيم الفاحش من جراء نهب ثروات البلدان الإسلامية العربية وغير العربية بكافة أصنافها، وتوظيفها توظيفاً صحيحاً في بناء ونهضة بلدانهم.
إن المطالبةَ بالديمقراطية مطالبة محرمة وتخالفُ عقيدةَ الإسلام وعقيدةَ الثوار أنفسِهم، فالله يطلب المسلمين أن يعبدوه وهو الجدير بالعبادة والإتباع والطاعة، والديمقراطية تقول لا تعبدوا الله واعبدوا أهواءكم وتشريعاتكم التي ترتضونها لأنفسكم، ولا تتبعوا ما يرتضيه الله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم لكم من حكم وتشريع.
إن الشعوبَ الإسلامية العربية متعطشة جداً للعدالة والنهضة والرقي والتحرر من هؤلاء الطغاة الكفرة الفجرة، ولكن يجب أن تعلم أنها لا تتحقق من خلال الديمقراطية، ويجب أن تعلم الشعوب كذلك أن الديمقراطية معناها حكم الشعب من الشعب للشعب، وليس معناها العدالة والنهضة والرقي والتحرر من الظلم والطغيان.
قال الله تعالى في سورة المائدة50
{أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللّهِ حُكْماً لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ}
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة 23
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ آبَاءكُمْ وَإِخْوَانَكُمْ أَوْلِيَاء إَنِ اسْتَحَبُّواْ الْكُفْرَ عَلَى الإِيمَانِ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَأُوْلَـئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ }
بارك الله فيك وجزاك الله خيرا
ردحذفالا ترى ان تحصل احدى قيادات الخوان المسليمن في اليمن على جائزة نوبل للسلام فضيحة للثورة العربية هناك جهود اخنوانية للسيطرة على الحكم بمساعدة غربية وقد صرح مسؤول اوربي في اليمن ان لا مشكلة من تولي الحكم الاخوان في ضل ان يمثلو الدولة المدنية
ردحذفأخي/أختي الكريمة
ردحذفسيأتي الحديث إن شاء الله عن أساليب إحراف الثورات العربية المباركة في الحلقة السادسة والخمسين، وما ذكرتيه يأتي بكل وضوح في هذا السياق،ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
مع تحياتي