الحلقة الستون الإسلام، نهضة إنسان، وتكوين أمة


الحلقة الستون
الإسلام، نهضة إنسان، وتكوين أمة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على رسوله الأمين
لو أمعنا النظر في حياة الإنسان لوجدناه دائما يقف أمام ثلاث خيارات في الحياة، ترسم له الغاية من العيش، وتقرر أفكاره ومفاهيمه ومواقفه، وتحدد له الأهداف في الحياة، وتؤثر على علاقاته، فترسم له صورة من الحياة محددة.
قد تتضح الغاية عند الإنسان وتكون معلومة لديه في آن واحد، وقد تكون الغاية مبهمة عنده وغير محددة.
ولكن يسمو الإنسان وتزيد سعادته كلما تحددت غايته من الحياة واتضحت، وتزداد سعادته كل ما كانت غايته هادية له غير مُضلة، وتتم السعادة له كلما استطاع أن يعيش بهذه الغاية، لا يمنعه منها أحد من قريب أو بعيد (نظام أو حاكم).
وينحط الإنسان ويشقى كلما كانت غايته في الحياة ومن الحياة مبهمة، فلا شيء يعيش من أجله أو يفني عمرَه في سبيله، ويزداد شقاؤه كلما امتد عمُرُه، ويتم شقاؤه عندما يموت وهو لم يكن قد تعرف على غاية محددة له في الحياة، فيكون أقرب شبهاً بالبهائم في عيشه ومماته.
أما إن كانت غاية الإنسان في الحياة معلومة ومحددة، ولكنها غاية مُضلة، فهي خير له من أن يعيش من دون غاية معلومة ومحددة، لأن الغاية غير المعلومة ستكون غير محددة ومُضلة في آن واحد، وهذا غاية الشقاء وأسُّه.
يبين الله لنا في كتابه الخيارات الثلاث التي ستقابله أو تتصدى لها ويتصدى لها في الحياة، فالخيار الأول هو خيار الإذعان للحق واتباع الإنسان منهج الحق وهو الإيمان بالله وكتبه ورسله، أما الخيار الثاني فيتمثل في كفره للحق وكفره بوجوب الخضوع لله الخالق، وهناك من لم يذعن لأمر الله ولم يكفر بالحق تماماً يتتبع في ذلك المصالح والمنافع حسب اجتهاده وظنه.
فقال الله سبحانه وتعالى عن الخيار الأول في سورة الإسراء (وَمَنْ أَرَادَ الْآخِرَةَ وَسَعَىٰ لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَٰئِكَ كَانَ سَعْيُهُم مَّشْكُورًا) (19)
أما عن الخيار الثاني فقال الله سبحانه وتعالى في سورة هود (مَن كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لَا يُبْخَسُونَ) (15)
وفي سورة الشورى ذكر الحالتين فقال تعالى (مَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ ۖ وَمَن كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِن نَّصِيبٍ) (20)
وفي سورة النساء قال الله تعالى مبيناً لنا حقيقة من اختار لنفسه منهجا هجينا أو مزدوجاً (مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَٰلِكَ لَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ وَلَا إِلَىٰ هَٰؤُلَاءِ ۚ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا) (143)

1)    واقع الأمم قبل الإسلام:
لقد نزلت رسالة الإسلام على سيدنا محمد في زمان كان الناس فيه بمختلف ألوانهم وقبائلهم متفرقين، ولم يكن هناك ما يجمعهم "بصفتهم الفردية" إلا تبادل المصالح، وتجمعهم بعض الأعراف الطيبة من الأخلاق المؤقتة بزمان ومكان محدد، وظروف محددة، أما بصفتهم الجماعية فكانوا قبائل كُثر لا يجمعهم شيء، ولا يمنعهم من التقاتل والتناحر إلا اجتماع المصالح، أو بعض التحالفات، أو الخضوع للدول القوية التي يستمدون منها الحماية، وربما ذلك له شبه كبير بحالنا اليوم، تختلف فيه المسميات فقط، أما الواقع السياسي والاجتماعي فقد كان كواقعنا اليوم، فإنسان السابق هو إنسان اليوم، وبناؤه الجسدي والغريزي هو نفسه لم يتغير، وسعيه إلى إشباع غرائزه وحاجاته العضوية هو هو لم يتغير ولم يتبدل، وهمته في جمع الأموال وتكثيرها وبلوغ أعلى المراتب لم يتغير، والتعامل على أساس المصالح بالرغم من رقي مستوى الدعوة إلى الأخلاق آنذاك والتغني والمفاخرة بها لم يتغير، والدعاوى العنصرية باتت أو عادت "بالأصح" اليوم كما كانت هي بالأمس قبل مجيء رسالة الإسلام.
2)    الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه وتغيير الواقع:
كيف تم تغيير واقع الأمم وكيف تمكن الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه من تغيير واقعها وهو رجل واحد؟ وهل تغييرُ الواقع ميسر لغيره؟ كما كان ميسراً له صلوات الله سلامه عليه؟ أم أنه نجح في تلك الدعوة بصفته رسول من عند الله، فكان النجاح مقتصراً عليه، وغير ميسر لغيره؟
فكيف تغير واقع الأمم بمجيء الرسول صلوات الله وسلامه عليه، ما الذي حدث؟ وكيف تم تغيير حال تلك الأمم بتلك السرعة الزمنية التي بلغت مشارق الأرض ومغاربها في غضون عدة عقود؟
ربما لإجابة هذا السؤال يجب علينا أن نتعمق قليلا، فالدعوة انطلقت من عند رجل واحد فقط، رجلٌ لم يكن يقل للشيء كن فيكون، ولا رجل قد طوى الله له الأرض وسيرها بأمره، ولم يكن رجلا أخضع الله له الرقاب وهو جالس في بيته، ولم يحمله الله على بساط من الريح إلى أطراف الجزيرة العربية، بل كان رجلا عاديا (قل إنما أنا بشر مثلكم) أخضعه الله لسنة الكون، ولم يغير الله سنة الكون من أجله.
وكأن الله تعالى أراد أن يرينا بهذا الحال أن بإمكان الرجل العادي في أي زمان أو أي مكان أن يقوم بما قام به هذا الرجل الرسول ولكن بشروط، وضوابط معينة، وقد كان صلوات الله وسلامه عليه يمشي على رجليه في سفره ويتعب، ويركب الدابة ويعاني مشاق السفر ومشقة الصعود والنزول، ولم يكن رجلا كما يسمونه خارق للعادة، وهذا ما يذهب ظن الناس إليه إن حدثتهم بوجوب استئناف الحياة الإسلامية بإقامة حكم الله في الأرض كما فعل سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه، فيقولون أن محمد بن عبد الله كان رسولا فنصره الله، ونحن لسنا رسلاً مثله، وينسى المجادل في ذلك أنه كما كلف الله رسوله محمداً بإبلاغ الرسالة فقد كلفنا الله كذلك بها، وكما نصره الله وأنفذ دعوته فقد وعدنا الله كذلك بالنصر وإنفاذ الدعوة، ولنا في الآية الكريمة من سورة النور خيرُ دليل، حيث قال الله سبحانه وتعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ (55)
وهذا ما حصل بعد وفاته صلوات الله وسلامه عليه، فقد نصر الله الجيوش الإسلامية في كل حدب وصوب من بعده، وهم قلة، ولم ينصرهم لأنهم كانوا يمتلكون السلاح الأكثر والمتطور والأعظم، والرجال الأكثر عدداً. بل كانوا دائما الأقل عدداً وعدة. بخلاف غزوة حنين بمعية رسولنا الكريم، فقد كان المسلمون الأكثر عدة وعتاداً، ولكنهم لم ينتصروا، فالعبرة إذن ليست بشخص رسول الله الكريم وأنه طوع له الأرض خلاف سنة الكون ودون الناس، بل لم ينتصر الرسول والمسلمون في غزوة حنين لأنهم لم يقوموا بما تتوجب عليهم سنة الكون التي سنها الله في الأرض، وبين الله لنا ذلك في القرآن الكريم حيث قال تعالى في سورة التوبة: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ ۙ وَيَوْمَ حُنَيْنٍ ۙ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنكُمْ شَيْئًا وَضَاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِمَا رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُم مُّدْبِرِينَ (25).
الشاهد من هذا كله، إن وراء ذلك كله حقائق يعلمها من له قلب واع ونفس صادقة وقلب طاهر، ولا يعلمها من لا يرى أو من لا يريد أن يرى، وليست هي بأسرار، قال تعالى: (إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ (37).
3)    العبادة لله سر النجاح والنهضة، والعبادة لغيره جل جلاله سر الضلال والضياع
لقد صنعت العبادة لله أمة لا تغيب عنها الشمس، حيث خلق الله الناس عبيداً، والعبد كما في لسان العرب هو الإِنسان، وهو مربوب لباريه.
 أي أن العبد في مجمل التفاسير والكتب هو الإنسان الذي يعطي ولاءه وطاعته وحبه واتباعه لشيء ما، فنقول هو عبدٌ لذلك الشيء، فالذي يجعل المال له سيداً دون أي قانون أو خُلق أو حكم، نقول عنه أنه "عبدُ المال"، والذي يجعل ولاءه وطاعته لأي حكم أو حاكم في كل أمر، حلالا كان أو حراما فهو "عبد لذلك الحكم أو الحاكم"، والمرأة التي تَعلق قلبُها برجل فتطيعه في كل أمر، حلالا كان أم حراما، نقول أنها "أمة الرجل". أي أن بمقدور الإنسان أن يخرج بإرادة منه أو ضلال عن الحق عن منظومة الفطرة والأصل الذي خلقه الله عليه من خالص عبادته سبحانه إلى عبادة المصالح القريبة والأهواء، فبالرغم من الرسالة السماوية  يقول الله سبحانه وتعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَضُرُّهُمْ وَلَا يَنفَعُهُمْ)، وقال تعالى: (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَمَا لَيْسَ لَهُم بِهِ عِلْمٌ ۗ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِن نَّصِيرٍ)، وفي سورة الفرقان قال تعالى (وَيَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُهُمْ وَلَا يَضُرُّهُمْ ۗ وَكَانَ الْكَافِرُ عَلَىٰ رَبِّهِ ظَهِيرًا)، في هذا الحال من العبادة  كان العرب والعجم قبل مجيء الرسالة، كل إنسان له رب يعبده، فإما أن يعبد المال (وهو الأشيع) أو يعبد غيره من الرجال كما وصفنا، وقليل من الأفراد كانوا يعبدون الله منعزلين في عالم من الفوضى والعبادة للأشياء والرجال والملوك آنذاك. هذا الواقع في اختلاف توجه العبادة، يصف حال الناس آنذاك والأمم، ويصف التفرق المجتمعي والسياسي بينهم أفرادا ومجتمعات، ويبين استحالة وحدتهم أو وحدة قلوبهم أو انتشار الخير بينهم أو سعادتهم وطمأنينتهم، أو لنقل بالمجمل نهضتهم نهضة راقية صحيحة على الخير.
ومن هنا نجد التفسير العقلي في ما فعلته رسالة الإسلام في الناس والمجتمعات والقبائل والدول مجتمعين، ومن أين انطلق التغيير والتحول من أفراد متخلفين إلى أفراد ناهضين، ومن مجتمعات متفرقة إلى أمة واحدة، ومن دول وقبائل متناحرة إلى دولة واحدة عظيمة عادلة.
4)    إخراج الناس من عبادة العباد إلى عبادة رب العباد بشهادة أن لا إله إلا الله وشهادة أن محمدا عبده ورسوله
قال الله تعالى في سورة محمد (فَٱعۡلَمۡ أَنَّهُ لَآ إِلَـٰهَ إِلَّا ٱللَّه)
لو تحققنا من فهم الشهادتين كما جاءت في اللغة العربية، وكما أدركها العرب آنذاك، ولم يختلف في فهمها اثنان، ونقلوا مفهومهما إلى العجم لأدركنا أن شهادة أن لا إله الله تقتضي البراءة من العبادة لكافة الآلهة والأرباب من دون الله، وتقتضي أن  يتحول الناس إلى عبادة الله وحده، ولا يجعلوا لله شريكاً في الأمر والنهي والحكم، فذلك خيار صارم بين أمرين، كالخيار بين اللونين الأسود أو الأبيض، أي إما الحق أو الباطل.
قال أعرابي مما ورد في الأثر حين سأل حبيبنا ورسولنا محمداً صلى الله عليه وسلم: إلى ما تدعو يا محمد، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن لا إله إلا الله وأني عبده ورسوله، فأجاب الأعرابي:
« هذا أمر ستحاربك عليه ملوك العرب والعجم»
وقد أوجز القائد المسلم ربعي بن عامر رضي الله عنه في حديثه لرستم حين أرسله أبو عبيدة ليبلغة رسالة الإسلام، ويأمره بالتحول إلى عبادة الله وحده بالتالي:
فقال لرستم: إن الله ابتعثنا لنخرج من شاء من عبادة العباد إلى عبادة الله، ومن ضِيق الدنيا إلى سعَتَها، ومن جَوْر الأديان إلى عدل الإِسلام
هنا نجد البذرة الحقيقة التي تُخرج الإنسان من قوقعة مظلمة، إلى نور الحياة الدنيا الذي يشرح صدره، ويصنع له عزة وشموخ لم يعهده من قبل، ويشد صلبَهُ، ويخلق له أجنحة يحلق بها في عنان السماء حرا طليقا، فلم يعد من الدنيا هناك شيء مما كان يعبده يُعنيه بعد، أي أن شهادة الإنسان بأن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله في حقيقتها قَسَمٌ وعهد وبيان وإقرار أن لا يُبقي شيئا من الدنيا بشرا كان أم مالا أم حجرا يتحكم به أو يخضعه أو يذله أو يهينه، ذلك العهد جعل الإنسان يتحرر من الأرض كافة ومن عليها، فلا يعبد إلا الله ولا يحكمه إلا الله ولا يشغل باله إلا اتباع أمر الله، وهذا يجعلنا نجد تفسيرا لثبات سيدنا بلال وأمثاله رضوان الله عليهم عندما دخلوا في الإسلام، فسيدنا بلال مثلا، لم تكن له بصفته عبد مملوك آنذاك الحرية لأن يختار لنفسه طريقا غير الذي رُسم له، ولم يثنه ذلك عن أن يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله، ولم يثنه فقدان أمله من النجاة من عذاب أمية بن خلف عن قراره، ولم يثنه عن الشهادتين غياب النصير من قبيلة وأهل، أي لقد ثبت رضوان الله عليه وهو فاقد للأمل من النجاة، فقد كان يشعر بقوة الجبال وتفاهة ألم الجسد والتعذيب.
من هنا نجد تفسيرا للشيء الذي صنعته تلك الشهادتان في نفوس الصحابة من حرية لا تحدها حدود وعزة وأنفة وقوة وشهامة ورجولة ومواقف ثابتة لا تتزعزع ولا تتغير.
لقد كانت الشهادتان ولا زالت تحريرا للإنسان من عبادة أي شيء في الدنيا ومن عبادة غيره من البشر ومن عبادة هواه، ومن عبادة المال أو الشهوات، وكان هذا أول الخير التي حظي بها أول الرجال ممن دخلوا في الإسلام رضوان الله عليهم، فهل نحن نعي اليوم ما وعاه أجدادنا من الصحابة الكرام من حقيقة الشهادتين ومقتضياتهما وتكاليفهما؟
نعم إن الشهادتين تقتضي التحرر من عبودية كل شيء في الدنيا وصرفها لله وحده، وتقتضي منا ألا نشرك مع الله محبة شيء من الدنيا، مما قد يحرفنا عن اتباع أوامره واجتناب نواهيه، أو يصرفنا عن عبادته والولاء له وحده سبحانه، وعلينا تقديم رضاه عن كل ما سواه، والخوف من غضبه دون سواه. إن في ذلك متعة للمؤمن المعاهد عليها في الدنيا لا متعة بعدها، وشرف ليس بعده شرف، وعزة ليس بعدها عزة. فليست الشهادتان قول مجرد يدخل الإنسان بهما الإسلام، وإنما هي تحرر من الدنيا وما فيها. مع العلم أن هذا التحرر لا يلغي بدهيا السعي للدنيا والتمتع فيها وبها، بل إن من مقتضياتهما التمتع بالدنيا وما فيها ولكن بالكيفية التي أمر الله بها، فلا ظلم ولا عدوان ولا خيانة ولا خذلان ولا تعدي على البيئة والإنسان.
5)    وجوب القيام بما أوجبته الشهادتان على من يشهد بهما
هذه هي عقيدة الإسلام التي أنزلها الله على الناس وكلفهم بها، وهنا يفرض السؤال نفسه علينا، هل حققنا مقتضى تلك الشهادتين إن كنا أسلمنا وآمنا؟ هل سكوتنا عن الظلم والحكم بغير ما أنزل الله قد حققنا به مقتضيات الشهادتين؟ هل سيقبل الله منا ما نطقنا به من الشهادتين دون أن نعمل بما عاهدنا الله عليه بالشهادتين؟
من شهد الشهادتين ولا أقول من نطق بهما، فقد ينطق بها أي حاكم من الغرب أو الشرق بفيهِ، فهل من شهد بهما يجوز عليه أن يقبل بالحكم بغير ما أنزل الله؟ وهل من شهد بهما يجوز عليه أن يجهل ما تقتضيه الشهادتان من تكاليف؟ وهل نظن أن الصلاة والصيام والحج وغيرها من الشعائر التعبدية تغني عما تفرضه الشهادتان؟ وهل الامتناع عن الدعوة والعمل من أجل أن يكون الحكم لله وحده دون سواه يبريء ذمة الإنسان مما عاهد الله عليه من الشهادتين أن لا إله إلا الله.
نعم من أراد أن يشهد الشهاتين ويعتبر نفسه مسلما أن يدرك أن الشهادتين هي عهد مع الله أن لا يعبد إلا الله وأن لا يقبل أن يعبد أو يُعبد غير الله إلهاً واحدا، وأن لا يجعل في الأمر أو الحكم أحد ولا شيء سواه.
تصوروا معي إذن البناء الذي بنيت عليه شخصيات من شهد الشهادتين من أوائل من دخل الإسلام من المهاجرين خاصة والأنصار ومن سار على نهجهم، وقد شهدوها بعلم قليل ولكن بصدق عظيم حررهم من عبوديتهم لأنفسهم وعبوديتهم لغيرهم وعبوديتهم من أهوائهم وشهواتهم، فحرروا أعظم بلدان العالم آنذاك.
مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا (23) الأحزاب
يقول الله سبحانه وتعالى: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَىٰ وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) التوبة

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق