الحلقة الخمسون - سياسة الخوف والتخويف - الجزء الأول -



شعور الخوف أمر طبيعي، وهو من الفطرة التي خلقها الله تعالى في الإنسان، ورجْع غريزي لغريزة البقاء، وضروري لحماية الإنسان من غيره، ومن البيئة التي حوله، ومن تحديات كثيرة تواجهه، إذن فهو شعور محمود ولا غنى عنه، بل يقترن بهذا الشعور مشاعر أخرى مماثلة كشعور الوجل، وشعور الخشية، وهي أقل حدة عن شعور الخوف، تخدم نفس الهدف لحماية الإنسان ووقايته قبل الوقوع في الخوف المُربك، فتزيدُ برفق من حذره. 
بلوغ درجة الخوف أو تجاوزها عن الحد الذي وضعه الله في قلب الإنسان بمقداره الفطري اللطيف، يتسبب في إصابة الإنسان بروْعة مؤذية تقض مضجعه وتربك حاله فتصيبه بحيرة وقلق وتكون وبالاً عليه وشراً، أما إن زاد الخوف عن مقدار الروعة المريع وكان متواصلاً لا يكاد ينفك منه صاحبه، تصيب الإنسان عن وعي رهبة لا تكاد تتحملها نفسه، إلى درجة تجعله يُؤْثر أن ينقاد لمن أرهبه ويلبي مطالبه ويُسْلم إليه أمره، لأنه على هذه الحال لا يرى نفسه إلا وَهِناً ومهزوماً حتماً.

أما إذا أصاب الإنسان ما هو أكثر من الرهبة فإنه يفقد مشاعر الأمان ويفقد سيطرته على نفسه، وهذه حالة نسميها حالة الرعب، وهي حالة أشد وطأة على النفس من الرهبة وأكثر ألماً وقسوة، أما المرعوب فلا يرى لنفسه أماناً، حتى ولو كان في بيوت محصنة، لأن الرعب يدفعه إلى الهلع أو الفزع، وهي حالة تتغلب فيها نفسه على عقله، فتأخذ نفسه بزمام حركته دون عقله، وتتصرف بالإنسان دون إرادته، حتى ولو ساقته إلى الهلاك.

أما الذعر فهو أعلى درجات الخوف على الإطلاق وذروتها، وأكثرها ألماً وقسوة، وهي المرحلة التي يفقد الإنسان حقاً عندها عقله، وكأنه يرى الموت بعينيه، بل يراه حقاً وصدقاً، وهو حال للإنسان فظيع ومؤلم له ولمن يشاهده، وغالباً ما يدفعه إلى الانتحار أو إلى أي فعل جنوني قاتل يخلصه من هذا الشعور.

لذا فإن حالات الخوف التي وصفنا، هي في حقيقتها حالات قاسية وتدعو للشفقة على أصحابها، وكلما زاد شعور الإنسان بالخوف قيّد حركة الإنسان وعطل تفكيره، وكبّله وسجنه في داخل نفسه، وهو كالسلاسل والأغلال في الأعناق، فيصبح الإنسان مسجوناً فكرياً وعقلياً وإرادياً.

الخائف أو المرهوب أو المرعوب كما وصفنا لا يفكر إلا بالشيء الذي يغلب على ظنه أنه سينقذه ويشعره بالأمان في لحظته ومستقبله، حتى ولو كان على حساب عزته أو كرامته، أو على حساب دينه إن كان إيمانه ضعيفاً، ولذا من العبث أن تعرض على خائف مرهوب أو مرعوب فكراً أو علماً ينهضه ويرقى به أو يخلصه من البؤس الذي يعاني منه، فذلك سيتوعده ويشير إليه من قريب أو بعيد بالتصادم مع واقعه من أجهزة أمنية أو حكومة قائمة أو أفراد أو مجتمع، فيكون الذي عُرض عليه من علم أو فكر من الأمور التي تمقتها نفسه، وتكرهها وتبغضها بغضاً شديداً.

الخائف المرهوب أو المرعوب لا يعقل عادة، أو لا يريد أن يعقل إلا ما يراه مناسباً مع أمان نفسه، بل عندما يُخيّر الخائف بين ما يُطرح عليه من الأمور، يختار فقط المسائل ذات الجوانب الآمنة التي يطمئن إليها وتخدم أمانهُ، ويدع الجانب الذي يريبه مما يفسره عقله من واقع مخيف، حتى ولو كان ذاك الجانب صائباً، فلا يريد أو يفعل إلا ما يرى من الأفعال التي تسير به إلى أمانهِ الآني، حتى ولو ذل أو فَقُر.

الخائفون يلبسون نظاراتٍ سوداء لا تُريهم الأشياء والأمور على حقيقتها، فلذلك لا يرون البيئة بألوانها المختلفة والمتعددة إلا بلون واحد، فلذلك هم قليلو المتعة في الحياة.

الخائفون يرتابون من كل شيء، ويرتابون من كل إنسان يرونه، ويرتابون من أي حديث يسمعونه يخص أمنهم، أو حتى لا يمس أمنهم، بموقف فائق الحذر على مقياس (قد يمس أمننا ونحن لا نعرف).

الخائفون عدوهم الإقدام، بل غريمهم الجرأة والتحدي والمغامرة، فالخوف يجمد أجسادهم في أماكنها، ويمنعهم من التطلع إلى نهضة أو تطور أو رقي، ويدفعهم خوفهم لأن يضحوا بكثير من الأموال في سبيل من يجدونه يقوم بدلاً عنهم بأعمال النهضة والرقي.

أما الجرأة والتحدي والمغامرة فهي من المحاذير عند الخائفين، ويرونها مستحيلة، بل يرون هذه المسائل من الجنون، وقد يرون أصحاب الجرأة والتحدي والمغامرة يفوقون البشر في مقدراتهم، وجديرين بالتقديس.
الخائف لا يحب مصاحبة الشجعان وتجزعه أفعالهم، بالرغم من متعته بمشاهدة بطولاتهم وبسماع أحاديث مغامراتهم، ولكنه لا يحب مصاحبتهم، وإنما يعمد لتقليدهم ليحقق متعة الشعور ببلوغ مراتبهم، أو يعمد لإشباع شعور الشجاعة والجرأة والتحدي وتحقيق البطولات بألعاب المغامرات الإلكترونية وبما يسمى بألعاب السوني والبلايستيشن أو غيرها، أي تحقيق البطولات في العالم الافتراضي.

الخائفون تبهرهم أعمال النهضة والتطور والرقي وتفتنهم، وتبهرهم أفكارها، ولكنهم لا يستطيعون التعامل معها أو القيام بها لأنهم اعتادوا الجزع، واستمرأوا العجز عن القيام بأي شيء منها ومن تعلّمها أو التخطيط لدراستها، ولذلك فهم يعيشون ليومهم، ولا يعيشون لغدهم ولا يخططون له، لأن شعور العجز سيطر على عقولهم المجمدة، وهذا يفسر واقع الشعوب في البلدان الإسلامية اليوم، واستسلامهم لسلطان العدو وصناعاته، وافتتانهم بنهضته.

الخائفون مستسلمون للواقع وخاضعون له، فالواقع مصدر تفكيرهم، أي أنهم يكرهون التفكير، ويعيشون كما يملي عليهم الواقع وتملي عليهم ظروف الحياة المقدمة لهم كما هي، راقية كانت أم متدنية، جيدة كانت أم سيئة، فيتعاملون معها دون التعرض لأفكار تغيير الواقع التي تجزعهم وتربكهم وتخيفهم، ناهيك عن جزعهم من أعمال التغيير وتطيرهم منها، ولذلك فإن الشعور بالأمان الآني يرونه خيراً لهم من الدخول في مسائل أو أفكار واعدة بالرقي والتطور والعزة والكرامة، فهي مستقبلية وتحتاج إلى التضحية والبذل والعطاء ناهيك عن أنها تهدد شعورهم بالأمان، وهذا أسوأ ما يمكن حصوله لهم. ولذلك فالعبودية في السلام عندهم خير لهم من التحرر تحت احتمال حصول الألم والشقاء.

الخائفون يشترون شعور الأمان بكرامتهم وعزتهم، كما يشرونها بأموالهم، بل وبأغلى ما يملكون، فهم يفضلون الذلة والمهانة والجوع والفقر على أن يمس أحدُهم أمانَهم أو شعورَهم بالأمن.

الخائفون يستسلمون لكل شيء، أي يمتنعون عن فعل أي شيء يمس أمنهم، حتى أنهم ليمتنعون عن طلب العلم النهضوي، أو التعرف على كيفية التخلص من العبودية والظلم والجوع والفقر.

الخائفون على مستوى الأفراد والشعوب والدول تجدهم دائماً متأخرين أو عاطلين أو عاجزين أو متخلفين، ولذا تجد الخائف يكذب عادة ليغطي نقصه وضعفه بأعمال وأقوال تُظهره على خلاف حقيقته المتواضعة، كأن يفتخر بأعمال لم يقم بها فينسبها لنفسه.

الخائف نفسه وما يملك أعزّ عليه من عزته وكرامته والقضايا المحمودة، ولذلك نجده يمد يده حتى لعدوه لينقذه من مسببات خوفه، لذا فهو لقمة سائغة سهلة لذيذة لكل الطامعين، فقد تأخذ منه كل ما تريد على شرط أن تُشعره بالأمان، وألا يمسه أحد بسوء أو يهدد أمنه.

ولو راقبنا الشعوب الإسلامية والعربية على وجه الخصوص لوجدنا أنه قد مورس في حقهم أفراداً وشعوباً ومجتمعات متفرقة كل أنواع التخويف المُوصلة إلى درجات الخوف التي ذكرنا بدرجاتها ومراتبها، بدءا من التربية القائمة على الخوف والتخويف والترهيب، كقولهم لا تفعل كذا وإلا فمصيرك كذا، وليس على مبدأ إن أردت أن تفعل فافعل، ولكن كن حذرا من حصول كذا أو كذا،، والتربية كذلك على منهج التخويف على الحياة والمال والأولاد والرزق التي هي أصلاً (كما يدعون) بيد الدولة أو الحاكم التي يمنحها من يشاء ويصرفها عمن يشاء.

ولا تقوم التربية اليوم على تقديم حقيقة أن الله بيده كل شيء، ويرزق من يشاء، ويعزّ من يشاء ويذل من يشاء، أي التربية على أن في اتباع أوامر الله واجتناب نواهيه العزة والكرامة والشرف وحفظ الأموال والأعراض، وأن حرية الإنسان التي يجب أن تكون مطلب المسلم والتي يكفلها الإسلام له هي التي تكفل له ولأهله ولذريته من بعده الرزق والخير كله وهو عزيز غير مهان، فإذا ما قام المسلم بتكاليف الدعوة إلى الله وإلى دين الله وإلى شريعة الله، وإذا ما قام بإنكار المنكر لا يخاف أحدا إلا الله، آمراً بالمعروف وناهياً عن المنكر حصلت له العزة والكرامة والخير الكثير.

في الواقع الحالي لم تقم التربية على هذه القواعد الإيمانية ولم تقم على اعتبار هذه القواعد أمورٌ مصيرية في التربية، تحمي الإنسان من الوقوع في الخوف والرعب والرهبة والجزع والفزع، ومن أن يعبث به وبحريته العابثون، ولنا في واقع المسلمين اليوم وبلدانهم أعظم دليل، وقد تغذت مجتمعاتهم بأكملها وشعوبهم بالرعب والخوف والمهانة والذل، ولكن الله يمكر بالخير، وهو خير الماكرين، وسيعود المسلمون إن شاء الله عاجلاً يقودون نهضة العالم بالخير وبالعمل الصالح في ظل دولة خلافة راشدة وعد الله بها ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم.

يقول الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم:
{وَكَيْفَ أَخَافُ مَا أَشْرَكْتُمْ وَلاَ تَخَافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُم بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالأَمْنِ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ} الأنعام81
وقال تعالى:
{وَاذْكُرُواْ إِذْ أَنتُمْ قَلِيلٌ مُّسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَن يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُم بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ} الأنفال26
وقال الله سبحانه وتعالى في سورة آل عمران:

الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ {173} فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ {174} إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءهُ فَلاَ تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ {175}

هناك تعليق واحد:

  1. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته :
    عجبا فكانت صوره حيه لترجمة كلامك بصور متحركه في الجمهوريه المصريه و كل أشكال الخوف والتخويف وفي لغط دام اياما بين الحكومات وفجاءه يتم اعلان فصل دارفور كدوله مستقله وبكاء الناس وحرقتهم في الجمهوريه السودانيه خبر لم يستغرق ثلاثه ثواني وانما تم التركيز على تخويف الناس من مصير مصر وتخويف الحكام على مصيرهم (وضاعت دارفور ياولدي )

    ردحذف