الجزء الثاني
لقد كان في تحديد أنواع الملكية في النظام الاقتصادي في الإسلام وبكل صرامة أبلغ الأثر في إعطاء الحقوق للناس وفي تمكينهم من ثروات الأرض ومن إشباع الحاجات الأساسية لكل فرد منهم، وأبلغ الأثر في حماية الأفراد والمجتمع من تعدي الحاكم أو زبانيته أو أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة على ثروات البلاد (كما هو حاصل في بلاد المسلمين اليوم)، وأبلغ الأثر في حماية الناس من إحتكار السلع والخدمات من قبل المتسلطين.
ولذلك فإن الإسلام جعل الملكية تتحدد في ثلاثة فقط دون خلط بينهم ولا تراخي ولا تهاون:
- ملكية الدولة
- الملكية العامة
- الملكية الفردية
أما ملكية الدولة فهي مقتصرة على الأموال التي تتحصل عليها الدولة من خراج الأرض والزكاة ومن ثروات الأرض من ذهب وبترول ومعادن وغيرها، وموارد الجزية والضرائب وغيرها، وهذه الأموال تُجعل في بيت مال المسلمين، ولا تكون ملكاً للخليفة أو لأحد معاونيه أو غيرهم، إنما هي أموال خالصة ملكيتها للدولة، يتصرف بها الخليفة للقيام بما يتوجب عليه من الصرف على الأصناف الثمانية من مستحقي الزكاة، والصرف على النهضة العمرانية والصناعية والزراعية وأعمال البحوث، ومصارف الجيوش وموظفي الدولة، وإنشاء الطرق والمواصلات والقطارات، واستخراج المياه وتوفيرها، وبناء المساجد والمدارس والجامعات والمستشفيات، وعلى مصارف الطواريء التي تلم بالأمة.
أما تكاليف الدولة الإسلامية على الرعية من الجوانب الاقتصادية فهي عديدة منها : أن تحول دون المشاريع أو الأعمال التي تؤدي إلى تداول المال بين فئة خاصة من المجتمع، وتعمل على أن يكون المال متداولاً بين جميع أفراد الرعية، فلا تقدم أحدهم على الآخر في الحصول على حق في المشاريع، ولا تقدم أحدهم على الآخر إلا بفضل العلم أو التخصص او التفوق وما فيه مصلحة الأمة أو ما شابهه.
تقوم الدولة الإسلامية بإقطاع الأراضي العامرة أو غير العامرة، والزراعية وغير الزراعية على كافة المسلمين ممن لا يملكون أراضي للسكنى أو للزراعة، وتعطي من بيت مال المسلمين لمن لا مال له لبناء المساكن أو لإستصلاح الأراضي.
تضمن الدولة الإسلامية نفقة من لا مال عنده ولا عمل، وليس عنده من تجب عليه نفقته، وتتولى إيواء العجزة وذوي العاهات. وتقوم بضمان إيجاد الأعمال لكل أفراد الرعية.
تقوم الدولة بسداد ديون العاجزين عن سداد ديونهم من مال الزكاة أو الفيء من بيت مال المسلمين.
لا تكون أجرة العاملين في دولة الخلافة حسب الشهادات العلمية أو الترقيات الوظيفية، إنما تكون الأجرة بحسب ما ينتجه أحدهم فنياً وعلمياً وإدارياً وبحسب ما يستحقه من عمل. وتعطي الدولة أجراً كافياً لمن تستخدمه في أي شأن من شؤونها إما كطالب علم أو عالم أو باحث، بخلاف ما تسخره لطلبة العلم عامة من أموال تكفي معيشتهم وتكاليف الحياة وتزويجهم.
لا يوجد ضرائب في الإسلام، ولكن قد تأخذ الدولة الإسلامية ضرائب مقدرة من الأغنياء عند عجز بيت مال المسلمين وعجز الدولة عن القيام بالتكاليف المنوطة بها في الصرف على ما ذكرنا، وترفع هذه الضرائب وقت انقضاء الحاجة للأمر الذي أخذت الضرائب من أجله، وليست الضرائب كتلك التي في النظام الرأسمالي، على الغني والفقير على حد سواء، وكل صغير أو عاجز أو كبير، وعلى كل مُنتج وكل خدمة.
تأخذ الدولة جميع التدابير التجارية التي من شأنها المحافظة على صناعات الأمة وزراعاتها، والأعمال والإنتاج فيها، فبعد أن تقيم الصناعات وتُنهض الزراعة، وتوفر بالتالي الأعمال لكل الأيدي العاملة، فإنها تحافظ على هذا الكيان بمنع تصدير كل ما من شأنه أن يستقوي به اعداء المسلمين الحربيين صناعيا أو زراعيا أو عسكرياً من ثروات الأرض، كالبترول أو المعادن أو غيرها، أو تصدير أي مواد زراعية أو غذائية، وتقوم كذلك بمنع استيراد كل ما من شأنه أن يعطل أو يؤثر أو يدمر الزراعة أو الصناعة في الداخل.
تمنع الدولة للغرض نفسه السماح بإدخال وباستثمار الأموال الأجنبية في بلادها، أو إعطاء الامتيازات لهم لأي من المشاريع الصناعية أو البترولية أو الزراعية أو التجارية أو غيرها.
نقد الدولة الإسلامية هو الذهب والفضة لا غيرهما، فغالب الأحكام الإسلامية تقوم على أساس الحساب بهما، ولكن يجوز لها أن تصدر فيما يقابلهما من النقد الورقي أو النحاسي أو غيره، إلا على شرط أن يكون هناك ما يساويه في خزينة الدولة من الذهب والفضة، وبالتالي فإن النقد وقوته وسعره يبقى على مر العصور والأزمان ثابتا لا يتغير، وبالتالي فلا مجال لما يسمى بسقوط سعر العملة، أو التضخم، أو التحايل على شعوب العالم والعبث باقتصاداياتهم وتجاراتهم وأقواتهم من خلال عملتهم كما يفعلون بالدولار.
الرجال، والأرض وثرواتها، والوقت، والعلم، هم الثروات الحقيقية للإنتاج في أي دولة، وهي موجودة في كل البلدان، فكلما حسن استخدام هذه الثروات الحقيقية وحسن توظيفها في سبيل النهضة والإنتاج، كلما نهضت الدولة وتعاظمت قوتها، وقوي سلطانها، وسما عز أهلها، وفي نظام الإسلام المثل الأعلى في التعامل مع هذه الثروات، فقد علمنا كيفية التعامل مع هذه المسائل، وكيف نوظف الرجال وعقولهم ونجعلهم أداة فاعلة في العمل والإبداع والإنتاج والتطوير، وكيف نتعامل مع الأرض وثرواتها التي تخرج منها، ونجعلهم أداة رائعة للإنتاج والنهضة، وكيف نتعامل مع البحار والأنهار والممرات المائية، وعلمنا الإسلام كيف نتصرف بثروة الوقت التي سخرها الله سبحانه وتعالى للناس أجمعين.
هذا هو الاقتصاد الإسلامي فيما يتعلق بملكية الدولة الإسلامية وحدود ملكية خليفتها، وهو بخلاف الواقع الإقتصادي اليوم الذي تنحاز فيه كل الأموال للفئة الحاكمة من الرأسماليين وأحزابهم (في أوروبا وأمريكا وغيرهم)، وبخلاف الأموال التي ينهبها حكام اليوم وعائلاتُهم وحاشيتُهم لخاصة أنفسهم، معتبرين أن الأرض وما على الأرض ملك خاص لهم يتصرفون بها كيفما شاؤوا (في العالم العربي والإسلامي)، ونظام الإقتصاد في الإسلام هو بخلاف الأنظمة القائمة اليوم والتي تخضع لمنظمة التجارة العالمية والبنك الدولي وغيرهما ولقراراتها وسيادتها، وليس اقتصاد الدولة الإسلامية بصناعتها وزراعتها كاقتصاد الدول العربية القائمة اليوم والتي تخضع لصناعة أو زراعة أمريكا وأوروبا والصين وغيرهم، وليست عملة الدولة الإسلامية عملة ورقية لا تعتمد على غطاء الذهب أو الفضة وتعتمد على سيادة غيرها من العملات كالدولار وتخضع للمضاربات النقدية العالمية والأسهم وغيرها كما هو حاصل اليوم.
بخلاف هذه الصورة وهذا المنهج الإسلامي يضيع كل شيء من المسلمين، رجال المسلمين وعقولهم وثروات بلدانهم، وبلدانهم ذات المواقع الإستراتيجية، وأموالهم، وتتبدد سنينهم وأيامهم، ويبقون في درك النهضة الأسفل في ذل ومهانة وفقر وحاجة، كما هو حاصلل اليوم.
وقال تعالى في سورة نوح 21- 25
قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلاَّ خَسَارًا، وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا، وَقَالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلا سُوَاعًا وَلا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا، وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا، وَلا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالا، مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا
وقال الله تعالى في سورة النساء 141
وَلَن يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق