الحلقة التاسعة والأربعون - مقياس الغيرة


-->
تشتعل نار الغضب في نفس المسلم وفي نفوس كل المسلمين في أنحاء العالم عندما يرون مشاهد تلفزيونية تهز مشاعرهم من اغتصاب النساء المؤمنات أو تدمير البيوت فوق رؤوس الأطفال والنساء والشيوخ المسلمين، وحيث أن أعداء الإسلام والمسلمين من الحكام وأسيادهم من الكفار المستعمرين يهيمنون على الإعلام المحلي والعالمي، باتوا يعرفون الأخبار والمناظر التي تهز مشاعر المسلمين وتقلقهم، فأصبحوا يديرون عجلة هذه المشاعر بوسائل الإعلام بالكيفية التي تخدم مصالحهم، وخاصة إذا كان وراء هذا الإعلام وتلك القناة دولة تنافس دولة أخرى مستعمِرة من خلال إعلامها.

لقد أدرك الإعلام المحلي والعالمي أن الأجيال المسلمة اليوم باتت غير تلك التي واجهوها قبل قرن أو أكثر من قرن من الزمان، فما كان يغار عليه أسلافهم كان شيئاً آخر غير الذي تغار عليه أجيال اليوم، فرؤية رجل واحد أجنبي مدني أو عسكري في بلاد المسلمين كان آنذاك مثاراً للغضب وفوران الدم، في الحين أن القواعد العسكرية الغربية اليوم تنتشر في كل بقعة من بقاع المسلمين ولا يتحرك لكثير من المسلمين ساكن.
ولو تأخر الحاكم آنذاك في تطبيق حكم واحد من أحكام الإسلام أو أساء تطبيقه، أو تسبب في تعطيل تطبيق أحد الأحكام ثارت ثائرتهم، في الحين أن اليوم تُطبق أحكام الكفر عياناً بياناً، جهاراً نهاراً، ولا يغضب لهذا إلا القليل من المسلمين، و لا يتحرك أو يُنكر أحدهم ذلك.

لقد أدرك الأعداء أن مسألة غيرة المسلمين أو الشعوب، هي مسألة متعلقة بتغيير الأفكار والمفاهيم، فإذا ما تغيرت أفكار الإسلام عند المسلمين تغيرت مفاهيمهم عن الحياة، كمفهوم الولاء والعبادة والإتباع والحرية والسعادة والعزة والكرامة والجهاد والحرب والصدق والأمانة والبر ومفهوم الفساد والصلاح والكفر والضلال، والمفاهيم عن المال وكسبه وجمعه وصرفه،، وما يعمله الحكام مع أسيادهم من المستعمرين على تغيير أفكار الإسلام كما أوضحنا ذلك في الحلقات الأولى من السلسلة، بدءاً من تغيير الحكم بالإسلام وأفكار الإسلام ومفاهيم الإسلام، مروراً بتغيير علاقات المجتمعات الاجتماعية والاقتصادية، وتغيير مواقفهم تجاه الأحداث التي تصيب الأمة الإسلامية.

حتى تم أخيراً السيطرة على غيرة المسلمين فساقوها إلى الاتجاه الذي يخدم مصالحهم (مصالح الحكام والكفار المستعمرين)، بل قد أصبحوا يتفننون في هذا الأمر، فاستخدموا "الغيرة" مقياساً يقيسون به وعي الأمة الإسلامية، قياساً على مستوى إنكارهم وتحركهم لكل ما يظهرونه لهم في الإعلام، فيعينهم ذلك على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتمرير مصالحهم ولوضع الخطط القريبة والبعيدة.

ثم يستخدمون هذه الغيرة لقياس إنكار الناس أو موافقتهم، على مسائل اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية يحاولون تمريرها على الأمة بسلام، فيقومون بطرح هذه المسائل في الإعلام، أولاً لقياس مستوى الإنكار أو الرضا عند الأمة، فإذا ما أنكرها الناس قام الإعلام ابتداءً بشتم من طرحها، ثم بعد أن يهضم الناس احتمال حدوث شيء كهذا، يطرحونه للنقاش، حتى يأخذ الناس في استساغة هذا الأمر إنكاراً وقبولاً، ثم لا ندري بعد برهة من الوقت إلا وأخذ الأمر في التنفيذ، رغماً عن أنوف الجميع الراضين والمنكرين، فلا تجد الفكرة بعدها من يتصدى لها أو يحاربها.
والأمثلة على ذلك كثير، كمسألة التطبيع مع ما يسمونها إسرائيل، أو في أي عمل إجرامي في حق الأمة،،، أما اجتماعياً فكل الخطط تتوجه نحو المرأة والنظام الاجتماعي وتحليل الزنا والخمر وغيره، أما اقتصادياً فكله يتركز نحو نهب ثروات الأمة والشعوب كعمليات الخصخصة (أي بيع مقدرات الأمة من سلع وخدمات في الصحة والاتصالات والمواصلات والطاقة وغيرها، بيعها إلى التجار أو الأمراء والوزراء والموالين ورؤوس الأموال الأجنبية) فيدفع الناس قيمة هذه الخدمات المجانية إلى عدو متسلط داخلي أو خارجي، وإدخال الشركات الرأسمالية المساهمة وإعطاؤها الصلاحية في النهب والتسلط، وغير ذلك كثير جداً.

يستخدم أعداء الإسلام والمسلمين من الحكام وأسيادهم من المستعمرين هذه الغيرة وقتما أرادوا، فمثلاً ترغب أمريكا أو أوروبا في احتلال بلد إسلامي كما حصل في العراق، ولكنهم كانوا في حاجة إلى إلهاء المسلمين عنهم، فاستخدموا خبراً يبرزونه في الإعلام يستفزون فيه أعلى درجات الغيرة "فيما تبقى من غيرة" عند المسلمين، كشتم الرسول محمد صلى الله عليه وسلم، فيصرفون غضب المسلمين وغيرتهم إلى شيء آخر، فيلهونهم عن ما هو في الإسلام عظيم وذي حرمة كحرمة شتم الرسول الكريم، وهو احتلال بلاد المسلمين وهتك أعراضهم وقتل أنفسهم ونهب ثرواتهم.

إن الغيرة مادة يستخدمها الحكام وأسيادهم من الكفار المستعمرين لأغراضهم السياسية والاقتصادية والاجتماعية، ويستخدمون هدمها تدريجياً، حتى يصلون إلى هدم الغيرة لأعظم مقدس في نفس المسلم والأمة الإسلامية، ولا زالت تطالعنا فكرة هدم الكعبة المشرفة وهدم قبة مسجد الرسول محمد صلى الله عليه وسلم وغيرهم، لعل الناس يستمرئونها مستقبلاً، كما استمرؤوا ما دون ذلك قليلاً.

وللغيرة استخدامات كثيرة عند الحكام وأسيادهم من الكفار المستعمرين، فهي يتم توظيفها للتدليس على المسلمين عندما تصاب أحد بلاد المسلمين بفاجعة من عدو، فيقوم الإعلام يعينهم على ذلك علماء السوء، بإبراز هذه المصيبة من جانب وينفخون في غيرة الناس من جانب آخر، وذلك لثلاثة أهداف، الهدف الأول هو تجميع الأموال "التبرعات"، والهدف الثاني للتنفيس عن جام غضب الناس وصرفهم عن المطالبة بأكثر من جمع التبرعات، والهدف الثالث وهو الأهم هو التدليس على المسلمين، أن إجراء جمع التبرعات يغني لرفع القتل والتهجير وهتك الأعراض وقتل الأنفس عن من هجم عليهم الأعداء، كما حصل منذ أول أيام احتلال بيت المقدس وبلاد فلسطين، وتبعه أحداث كثيرة من أبرزها إعلامياً أفغانستان أيام الغزو الروسي، الشيشان، البوسنة والهرسك والعراق وبلاد الشام وبورما، وغزة والصومال وكشمير، فقد صرفوا المسلمين عن هذه الأحداث العظام بجمع التبرعات وبدعة الدعاء بدون عمل.

لذلك يجب أن يدرك المسلمون هذه المكائد والحيل، ويجب أن يدركوا كيف يتصدون لها، ويجب أن يدركوا أين موضع الغيرة الصحيح الذي هو رأس كل أمر، فإذا لم يكن، فلا ينفع بعده غيرة أو غضب، وهي الشيء الذي إن زال زال معه كل خير، ودُنست بزواله كل المقدسات، وانتهكت بدونه كل المحرمات، وهتكت بغيابه كل الأعراض، وسفكت بدونه الدماء، ونهبت بدونه الثروات، وضاعت بدونه كرامة الناس وعزتهم، فيذل العزيز ويعز الذليل، وهو الشيء الذي بدونه تضيع الحقوق، وينحاز المال إلى المتسلطين دون باقي الناس، ويتسلط الأقوياء على الضعفاء، وبدونه تضيع حقوق العاجزين والأرامل والنساء والأيتام وذوي الحاجة، والذي بدونه يتجرأ المجرمون ليدمروا مدناً وقرى وشعوباً بأكملها، ويقتلوهم بالدم البارد، والذي بدونه تضيع القيم الإنسانية والأخلاقية وكل أفعال الخير.

إن موضع الغيرة الصحيح والذي نؤكده هنا هو الغيرة على شرع الله وحكمه وأمره في الأرض، الذي به تستقيم كل أمور الدنيا، وليس كما يفعل بعضهم بالغيرة على أعراض المسلمات المغتصبات في العراق أو في الشام أو كما كان في البوسنة أو غيرها، ولا تهزه أي غيرة على غياب حكم الله وتعطّل أحكام الله وتعطل أحكام الجهاد في بلاده حيث يعيش، فإن لم تكن عند المسلم غيرة عظيمة هائلة على حكم الله وشرعه، فما دون ذلك لا ينفعه ولا ينفع المسلمين في شيء، وليس فيه خير.

إن موضع الغيرة عند المسلمين جميعاً يجب أن يكون هو شرع الله وحكمه قبل كل شيء، حتى قبل الأكل والشرب والنوم والسكن، وقبل الغيرة على المال والعرض والدم والولد، فإن وجّه المسلم غيرته لهذه تاركاً وراءه حكم الله فقد ضيع العرض والمال والدم والولد والأكل والشرب، إلا أن يعطي ولاءه أو شيئاً من ولائه للحكام وأفكارهم ولأسيادهم من المستعمرين فيتكسب من خلال ولائه لغير الله، وبذا يكون قد أشبع حاجات نفسه فقط، ضارباً بعرض الحائط الشهادتين وما تقتضيهما، حكم الله وأمره ونهيه، وضاربا بعرض الحائط المسلمين جميعاً.

قال الله سبحانه وتعالى في سورة الكهف 57
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاه
وقال تعالى في سورة العنكبوت 68
وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُ أَلَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوًى لِّلْكَافِرِينَ
وقال الله تعالى في سورة المائدة 51
يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَتَّخِذُواْ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَوْلِيَاء بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللّهَ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ
قال الله تعالى في سورة المائدة 
وَأَنِ احْكُم بَيْنَهُم بِمَا أَنزَلَ اللَّهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَن يَفْتِنُوكَ عَن بَعْضِ مَا أَنزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ ۖ فَإِن تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ أَن يُصِيبَهُم بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ ۗ وَإِنَّ كَثِيرًا مِّنَ النَّاسِ لَفَاسِقُونَ (49)

هناك تعليقان (2):

  1. Reem Hashem rhashem@otelecom.com23 ديسمبر 2011 في 3:23 ص

    يا عم ارحمنا بقى. ارحمنا لوجه الله من اللى انت عمال تقوله ده. و كمان عمال تستشهد بالقران. ارحم المسلمين عشان ربنا يرحمك. قول الحق يا راجل و بلاش تلاعب بالدين لأسباب أخرى. و كمان بتوعى المسلمين من الفتن. ده انتوا الفتن نفسها. و للأسف بتلعبوا على جهل الناس و طبعا لما تقولوا كلام كبير زى الدش اللى انت عمال تدشه و فى الآخر ايات من المصحف ليست فى محلها، اكيد الناس بتصدقكوا عشان طيبين و بيحبوا دينهم. اتقوا الله، اتقوا الله، اتقوا الله و حسبى الله و نعم الوكيل، حسبى الله و نعم الوكيل، حسبى الله و نعم الوكيل

    ردحذف
  2. د. محمد سعيد التركي23 ديسمبر 2011 في 3:25 ص

    هل أنت يا أختنا ناقدة؟ أم رافضة؟
    فإن كنت ناقدة فلا بد أن يكون لديك علم أكثر منا، فمن واجبك إذن أن تنفعينا وتنفعي المسلسمين بتصحيح ما كتبنا هنا فأنشره لك في المدونة أو عن طريق المجموعات، وإن كنت رافضة لمجرد الرفض، فأنت لا تظلمين إلا نفسك ولن تضري أحداً شيئاً، بل وتعلمين غيرك سوء التعامل مع فكر وعلم كهذا، فتبوئين بعدة آثام، لا سمح الله
    تحياتي

    ردحذف