الحلقة الثامنة والعشرون - مفهوم الرزق

-->
يظن كثيرٌ أن مسألة الرزق أو الحصول على المال هي مسألة رياضية بحتة، وأن الحصول على الرزق مقدر بجهد الإنسان في الأعمال، ومرهون بقوته، ومرهون بدهائه وذكائه، وشدة مكره، وبعلمه الواسع، فإن إزدادت هذه الصفات في الإنسان زاد رزقه وتوسع سلطانه، وإن نقصت نقص رزقه وضاق عيشه، ويظن كثير أن الإنسان هو الذي يرزق نفسه وأبناءه وزوجه، وهو الذي يقوم بعملية الرزق في حصوله على أسباب العيش من مأكل ومشرب وملبس وكماليات وترفيه له ولأبنائه، فإن لم يفعل فستنقطع عنهم أسباب الرزق حتماً وقد يموتون جوعاً، وأن الإنسان إذا لم يوفر لأبنائه بعض الأموال ويدخرها لهم لما بعد موته أو لمستقبلهم فمصيرهم مهدد بالخطر، ويظن الأبناء والزوجة أنه لولا أبيهم هذا أو أمهم لكان مصيرهم إلى الفناء لأن الرزق مرهون بوجود أبيهم أو أمهم، ويظن بعضهم أن لولا هذه الوظيفة أو تلك، أو لولا هذا الحاكم أو ذاك لمنع عنهم الرزق، ويظن الناس أن هناك قرى فقيرة وأخرى غنية هي وشعوبها، وذلك لأنه لم يفتح الله لهم آباراً من البترول أو كنوزاً من ثروات الأرض، وأن الله هو المتسبب في ذلك أن أعطى بعضهم، ومنع عن البعض الآخر .

هذه المفاهيم فيها كثير من الخلل، وهي لا تطابق حقيقة الرزق وتوزيعه بين الخلق، فهل إن سرق أحدهم مال آخر، يقول هذا الآخر أن الله لم يقدر له هذا الرزق؟، ولو أن أحدهم قطع إمداد الماء عن أحد البيوت قالوا أن الله لم يرد أن يرزق هؤلاء بالماء؟ ولو أن الحكام كما يفعلون اليوم يطبقون النظام الإقتصادي الرأسمالي على شعوبهم فيتسبب ذلك في فقر خمس وتسعين بالمائة منهم، ويغتني خمسة بالمائة من أعدادهم لأن أموال البلاد قد انحازت لهم، فيتدنى مستوى معيشتهم وتنضب أقواتهم، فيقولون أن الله لم يرزقهم؟ وكتب الرزق الوفير فقط لهؤلاء الشرذمة الخمسة القليلين؟، وإن قامت أمريكا وأحلافها بالسيطرة على نظام التجارة العالمي وتسببت كما هو حاصل في فقر بلدان كثيرة وتدنى مستوى عيشهم، نقول أن الله لم يرزق هؤلاء وكتب عليهم الفقر؟ أو نقول أن دول العالم الثالث خلقوا من طينة رديئة غير طينة الأوروبيين أو الأمريكان، ولذلك أصابهم الفقر لغبائهم أو مستواهم الفكري المتخلف؟ ولذلك قدر الله عليهم أرزاقاً قليلة؟

أو أن تُمنع البلدان الإسلامية من النهضة الصناعية والنهضة الزراعية، وتُجعل سوقاً إستهلاكية بمعونة الحكام الخونة، فتتفشى فيهم البطالة التي أصبحت أعلى معدلات البطالة في العالم، فالفقر، فالحرمان من الزواج، فالمصائب الإجتماعية بين المسلمين، فيُقال أن الله كتب عليهم ذلك الفقر وتلك المصائب ولم يرزقهم؟ أو أن يقوم أحلاف الكفر في العالم تحت منظمة هيأة الأمم المتحدة بمحاربة كل من تسول له نفسه تخطي الحدود التي رسموها بين بلدان العالم الثالث، وخاصة بلدان المسلمين وغيرهم، فحرموا هذه البلاد من زراعة جارتها، وحرموا جارتها من صناعتها وثروات أرضها، وحرموا هذه من الطرق المائية والبرية، وفتحوا لجارتها كما يشتهون طرقاً برية أو بحرية، سببت في ضرب تجارة جارتها وفقرها وتخلفها، فهل نقول أن الله تسبب في فقر هذه البلاد؟ أو أن الله أضعف رزق هذه البلاد وزاد في رزق غيرها وشعوبهم؟

طبيعي أن طريقة التفكير هذه في موضوع الرزق طريقة كما نرى خاطئة، والأصل في الرزق أن هناك جانبين من طرق الرزق :

الجانب الأول: هو الجانب الذي جعله الله في سنة الكون، أنّ للإنسان ما سعى من العمل والعلم ليتحصل به على رزقه، فيحتطب ويتحصل باحتطابه على الحطب، ويغرف من الماء فيتحصل من خلال غرفه على الماء، ويقوم بالتجارة والبيع والشراء فيحصل من خلال بيعه على الكسب، وكل ما زاد فنه وعلمه في البيع والشراء وخبرته كلما زاد كسبه.

للإنسان في هذه الأفعال جهده الذي يبذله في سبيل الكسب الذي يرجوه، إلا أن الكسب ومقدار الكسب وعدده، ومقدار الإستفادة منه، فهو بيد الله سبحانه وتعالى، فقد يكسب الإنسان اليوم قليلاً وبجهد كبير، وقد يكسب غداً كثيراً وبجهد أقل، وقد لا يكسب شيئاً، فهذا بيد الله سبحانه وتعالى وفي دائرة تصرفه، حتى ولو بذل الإنسان ما بذل، إلا أن ذلك لا يمنع من إجتهاد الإنسان أن يقوم بدراسات وبعلوم تفيده في زيادة دخله ومقدار مكسبه، وسيحصل له حتماً أن يزيد مقدار كسبه ولكن بإذن الله تعالى، وفي دائرة تصرفه سبحانه وتعالى .

وقد يكسب الإنسان ما كسب، ولكن يأتي للانتفاع بما كسب، فيجد أن ما كسبه هذا اليوم أو هذا الشهر أو السنة كان أنفع له مما كسبه السنة أو اليوم أو الشهر السابق، فقد يتبدد المال في خير أو في شر دون إرادة منه، فلا ينتفع إلا بقدر معلوم منه، وقد يزيد هذا المال زيادة فاحشة، ولكن بالرغم من هذه الزيادة أو الكثرة فهو لن ينتفع من هذا المال إلا بقدر معلوم، كما في حاجته إما للمأكل والمشرب، أو للملبس والمسكن، وقد يبقى المال مكنوزاً دون الاستفادة منه، إما بإرادة منه، أو بموته، أو بضياعه، أو بأي شيء آخر .

هذه الدائرة هي التي أخضع الله الإنسان فيها لسنة الكون ليطلب رزقه بنفسه، إضافة إلى تدبيره سبحانه وتعالى في الكسب والإنتفاع، فكان الله سبب رزق الإنسان، وكانت أعمال الإنسان وتجاراته وسعيه مجرد حالات يحصل من خلالها الرزق له من عند الله سبحانه وتعالى .

قال الله سبحانه وتعالى في سورة البقرة 212

( والله يرزق من يشاء بغير حساب )

وقال تعالى في سورة آل عمران 37 : ( إن الله يرزق من يشاء بغير حساب )

وقال تعالى في سورة البقرة 60 : ( كلوا واشربوا من رزق الله

هناك 5 تعليقات:

  1. السلام عليكم يادكتورمحمد..إن هاذا المقال الرائع في توضيح مفهوم الرزق مرتبط من وجهة نظري بمقالك الأروع عن القدر.. وهوا قد كتب الله لك الرزق المحدد لك وانت تختار كيف سوف تكسبه إما بالسرقه وإما باالعمل الصالح .. وأستغرب مننا نحن جنس البشر في قلقنا المستمر على هذا الموضوع؟ فهو عزوجل عندما قال يرزق من يشاء لم يكن مخصص الانسان فقط فهو يرزق الحوت في المحيطات والطير في السماء والنمل في مساكنها .. ونحن نقلق!!!!!

    ردحذف
  2. جزاك الله خيرا

    ردحذف
  3. جزاك الله خيرا فعلا أحيانا نعتقد ان الرزق يأتي بالشطارة ولكن الله قال يرزق من يشاء وكيفما يشاء وكل شىء عنده بمقدار

    ردحذف
  4. السلام عليكم اين الجانب الثاني يادكتور فقد ذكرتم الجانب الول فقط

    ردحذف
  5. أخي الكريم سلطان
    السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، الجانب الثاني تجده في الحلقة التي تليها وهي التاسعة والعشرون
    تحياتي

    ردحذف