إن عملية التربية الإسلامية، وبناء الشخصية الإسلامية (الإيمانية) بشكل خاص، وإنشاء المجتمع الإسلامي والدولة الإسلامية والأمة الإسلامية بشكل عام، عملية منظمة ومقننة ودقيقة، بالرغم من يسرها وسهولتها، فالإنسان بفطرته وغرائزه الطبيعية مهيأ تمام التهيئة للعملية التربوية الإسلامية، وبالتالي إلى البناء الفكري العقدي الصحيح، وللبناء النفسي والاجتماعي والخُلُقي، الذي يتحقق من خلاله سعادته في الدنيا ورضاه بها ومتعته فيها دون أن يكون في حاجة لأن يعتدي على حق أحدهم أو أن يظلم غيره، أو يحسد أو يبغض أو يكره أو أن يؤذي أحداً، ومن دون أن ينظر إلى ما في يد غيره من الناس.
ولو اطلعنا على حقيقة البشر أجمعين، فإنه لا يختلف أحد منهم عن الآخر في بنائه الفطري والغرائزي، ولوجدنا أن غرائز الإنسان تتمثل في ثلاثة غرائز لا رابع لها، وهي غريزة التدين، وغريزة النوع، وغريزة البقاء، ولوجدنا أن كل ما ينتج عن هذه الغرائز من محاولات إشباع لها منه، تتمثل في مطالب محددة ومعينة عند كل البشر، لا يختلف فيها أحدهم عن الآخر، فمطالب البشر أجمعين واحدة في كل الأزمان والأماكن، لا تختلف أبداً، بدءاً بسيدنا آدم وانتهاء بآخر مولود على الأرض.
ولو اطلعنا على حقيقة القيم عند البشر أجمعين، لوجدناها لا تتعدى أربع قيم، وهذه القيم يسعى كل البشر لتحقيقها من خلال الأفعال، فالقيمة المادية والقيمة الإنسانية والقيمة الروحية والقيمة الخُلُقية، والسعي لتحقيق هذه القيم هي الدافع لكل إنسان ولأي فعل بشري، أي أن كل فعل مقيدٌ بالقيمة المراد تحقيقها من خلال الفعل، أي أن الفعل يُعتبر وسيلة لتحقيق القيمة المطلوبة.
وإذا اطلعنا على القيم لوجدناها مقيدة بهوى الفرد، فهناك من يصب جُلّ اهتمامه على القيمة المادية، ولا ينظر إلى الدنيا والأفعال والناس الذين حوله إلا بمنظار المادة ومصالحه، وهناك من ينظر إلى الدنيا من منظار مشترك بين القيم، بين المادية والإنسانية والأخلاقية، وهناك من ينظر إلى الدنيا من خلال الحلال والحرام، أي لتكون القيمة الروحية التي يحققها هي عمود أفعاله وأقواله وحياته في تحقيق القيم الأخرى.
هوى هذا الشخص أو ذاك مقيد بما يؤمن به أحدهم في هذه الدنيا، وبالتحديد من ناحية وجوده في الدنيا وسبب وجوده، ومن ناحية من هو سيده الذي له الحق في رسم خطى حياته كلها، ويقرر كيفية تنفيذ أفعاله وأقواله وعلاقاته.
فإن أوصلته قناعته أو درجة علمه إلى فكرة أنه مادة أوجدت نفسها، وأن الكون والإنسان والحياة مخلوقة الخيال أو الصدف أو ما شابهه، فإنه بهذه الفكرة سيكون سيد نفسه،، ونفسه ستكون هي المشرّع لأفعاله وأقواله في هذه الدنيا، وهي التي ترسم له علاقاته مع نفسه ومع غيره من المخلوقات. وبالتالي فإن هذه النوعية من الأشخاص تنظر إلى كل شيء في الدنيا من خلال منظار القيمة المادية، وتقديم المصلحة على كل القيم الأخرى، هذه هي عقيدة الكافر، وهذه هي تركيبة الشخصية المغايرة تماماً لبناء الشخصية الإسلامية، هذه الشخصية غير الإيمانية هي التي يستميت من أجل إيجادها الكفار وأعوانهم من الحكام وغيرهم في نفوس المسلمين كافة.
إذن فإن الأصل في بناء الشخصية البشرية تقوم على فكرة أو عقيدة الوجود، وعلى حقيقة خالق الموجودات، من كون وإنسان وحياة، وما يتبع هذه الفكرة من موقف في هذه الحياة، ومن مطالب فيها، وما يتبع هذه الفكرة أيضاً من إتباع تشريعات في الحياة، وما يتبعها من الاتصاف بصفات أخلاقية معينة، وبكيفية معينة.
أما إن آمن الإنسان بوجود خالق لهذا الكون، نقول "آمن" ولا نقول "صدّق"، أصبح المحور الذي تدور فيه وعليه مصالحه وحياته وعلاقاته هو هذا الخالق، وهو الله سبحانه وتعالى، وتكون القيم التي يسعى إلى تحقيقها كافة، إنسانية وأخلاقية ومادية، تسير تحت مظلة القيمة الروحية، أي أن تحقيق الأعمال والقيم، لدى من آمن بأن الله هو خالق السماوات والأرض والمخلوقات، لا يمكن أن يرتضي إلا أن تتم بأفعال مقيدة بحكم شرعي، وبدليل من القرآن الذي أنزله الله، أو بدليل من سنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، وفي الحقيقة لن تتم القيم على أجمل وأكمل صورة، إلا بالكيفية التي علمنا إياها الله سبحانه وتعالى.
لذلك فإن الأصل في بناء أي شخصية في العالم هو البناء العقدي، والذي يتعداه من بناء الشخصية كفرد، إلى بناء المجتمع كلياً، وصولاً إلى بناء الدولة بكل مؤسساتها وقوانينها ودستور الحكم فيها.
فإن أردنا أن نعالج المشاكل الفردية من الناحية السلوكية، فإنه من الخطأ أن نقسر أي فرد على السلوك الذي نحب قسراً، ونجبره عليه جبراً، فهو أمر تعسفي في حق الفرد، حتى ولو كان الفعل الذي نطلبه منه مما يرضي الله سبحانه وتعالى ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم، كالصلاة والأمانة والصدق والدعوة والجهاد وغيره، بخلاف ما لو قمنا ببناء شخصية الفرد بناء عقدياً سليماً، فإنه سيسعى هذا الفرد بنفسه لأن يقوم بأكثر مما يُطلب منه بعزيمة صادقة، وطاقة عظيمة، وإخلاص وتصميم ومثابرة.
وعلى نفس المقياس لو بُني شخص ما بناء عقدياً كفرياً فإن من الجهل أن يُطلب منه أن تكون أفعاله وأقواله تسير بمقياس الحلال والحرام، أو أن يصلي أو يصوم أو يقوم بأفعال المسلم، لأنها بالنسبة له لن تكون مفهومة على الإطلاق.
فالأصل في بناء الشخصية هو البناء المبدئي، أي البناء المبني على العقيدة، وعلى ما ينبني على هذه العقيدة من نظام، أي الإيمان بالله أو بغيره، مع الإيمان بالنظام المنبثق عن من آمن به. ففي حالة الإسلام فإن عقيدة الإسلام هي الإيمان بوجود الله وبإلوهيته، والإيمان بملائكته وكتبه ورسله وباليوم الآخر وبالغيبيات القطعية التي أخبرنا عنها في القرآن الكريم وسنة نبيه محمد صلى الله عليه وسلم، والإيمان بما انبثق عن هذه العقيدة من نظام نزل على لسان سيدنا محمد عبده ورسوله صلوات الله وسلامه عليه.
أما حالة الكفر في عصرنا، فإن عقيدتها هي الجحود بوجود الله وبإلوهيته، والجحود بأي نظام نزل على لسان أي رسول من رسله، كما هو في الرأسمالية أو الاشتراكية، والإيمان بالنظام الديمقراطي الذي انبثق عن هذا الجحود، وتجاهل أيّ قِيَم معلومة، ما عدا القيمة المادية.
إن بناء الشخصية الإسلامية مطلوب فيه، في أيامنا هذه، في غياب دولة الإسلام، طلب العلم الشرعي من مصادره الأصولية، وأخذه من العلماء الربانيين الذي سبق ذكرهم، ومساندة العاملين عليه، والدعاء لهم، حيث سنعمد في سلسلتنا هذه البدء بإعطاء الدروس العقدية والفكرية اللازمة في بناء الشخصية الإسلامية، لعل الله أن ينفع بها كل مخلص، ويهدي بها كل ضال، ويرشد بها كل طالب علم.
وسنبدأ إن شاء الله بدرس الإيمان، وكيف للإنسان أن يؤمن، وكيف تتضح له صورة الإسلام والإيمان، وما الفرق بينهما، وكيف نثبت وجود الله سبحانه وتعالى، ونثبت أن القرآن منزل من عنده، وكيف نثبت أن محمد بن عبد الله عبده ورسوله، عليه أفضل الصلاة وأتم التسليم.
قال الله تعالى في سورة العنكبوت 69:
وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِين
وقال سبحانه وتعالى في سورة البينة 7 :
إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّة
وقال تعالى في سورة النساء 69 :
وَمَن يُطِعِ اللّهَ وَالرَّسُولَ فَأُوْلَـئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاء وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَـئِكَ رَفِيقًا
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق