الحلقة الخامسة والأربعون - كيفية تغيير واقع الأمة منهج التغيير منهج التغيير منهج التغيير - الحركات والجماعات والأحزاب القتالية - الجزء الثاني


-->
لقد اندفع منذ عشرينيات القرن العشرين، مرحلة سقوط دولة الخلافة العثمانية، آخر معقل للإسلام، إندفع لإنقاذ الأمة وتغيير واقعها كثيرٌ من أبناء الأمة الإسلامية المخلصين، فمنهم من حمل السلاح بشكل فرديّ، ومنهم بشكل جماعي في هيئة جماعات أو أحزاب مسلحة، لطرد الكفار المستعمرين، ومنهم من نظر للأمر بعمق أكثر، فوجد أن لا سبيل لإزاحة الاحتلال بقوى مقاومة متفرقة وبسلاح خفيف، عدا أن الأمر لم يعد كما كان قبل سقوط الخلافة، جيش المسلمين يواجه جيش العدو تسانده قوى المقاومة من الخلف، وإنما هو جيش العدو بكل مؤسساته وتنظيماته، تواجهه قوى متفرقة غير منظمة، ومتعددة الأهداف ومتنوعة المشارب، ولا تصنع السلاح، وليست لها قوة سياسية أو قوة عسكرية متكافئة مع العدو، وليس هناك دولة أو جيش يدعم هذه المقاومة كما كان من قبل، لا من أمامهم، ولا من ورائهم.

توارث المسلمون روح الجهاد ومحاربة الأعداء المعتدين من القديم، ولا زالت هذه الروح وهذه العزيمة قائمة بالرغم من هزائم المقاومة المتعددة حديثاً أمام جيوش الكفر، وبالرغم من انحياز فريق من أبناء جلدتهم إلى عسكر جنود الاحتلال، أو انحيازهم إلى الجيوش التي كوّنها العدو المحتل للدول التي أقامها.

ثم بات الناس اليوم لا يجدون العدو المحتل أمامهم حتى يقاتلوه، وإنما وجدوا عدوهم محصناً بأبناء جلدتهم، فكان لا بد لهم من أحد ثلاث خيارات، إما العمل المسلح فيقاتلون أبناء جلدتهم، ومقاتلة الحاكم الذي يحكمهم، حتى يصلوا إلى عدوهم الأصلي المحتل، أو القبول بالأمر الواقع كخيار ثان، حيث أن الحاكم قد تترسن بجيش وقوات أمن وسلطان عظيم، أي القيام بأعمال تتأرجح بين العمل السياسي والعمل العسكري، وإما تجاوز الخيارين السابقين والاستسلام للأمر الواقع، والتوقف عن المقاومة المسلحة، والتحول إلى أفكار الإصلاح، والدعوة إلى العبادات والمواعظ، والقبول بالشبهات والحل الوسط، والنصيحة للحاكم الذي يحكم بالكفر، وما شابهها.

وبهذه المنهجية، وعلى أساسها تعرضت الأمة الإسلامية والعمل الإسلامي والعمل الدعوي إلى تجارب نهضوية كثيرة من شخصيات إسلامية كثيرة واعدة، لكن هذه التجارب قد تسببت في كوارث على أصحابها أولاً وعلى عامة الناس تالياً، وتسببت في إساءة السمعة للإسلام، وسمعة العاملين في مجال الدعوة، وعلى سمعة المجاهدين ثانياً، وخاصة أن هذه التجارب قد تكررت في البلد الواحد مرة أو مرتين، في مصر والجزائر والمغرب والشام ولبنان وأفغانستان والصومال وغيرها كثير، مما أنهك الشعوب الإسلامية في سبيل كفاحها ضد عدوها وفي سبيل نهضتها، وأصابها بكثير من الإحباط واليأس والاستسلام للواقع.

بالرغم من هذا كله ما زال الحنين إلى الجهاد في نفس كل مسلم عالياًُ، بالرغم من تعطل فريضته، وباتت الحاجة إليه قائمة لم تنم، وملحّة في الصدور، ومدوّية في الواقع المرير، ولذلك تتجدد الحركات النهضوية الجهادية مع كل جيل صاعد في العالم الإسلامي،، تبدأ فردية وتتطور إلى جماعية بالطبع، فالحنق يملأ صدورها، والشعور بالغبن يسود حالها، والذل والهوان والحياة المهينة مسائل يلمسونها في كل جوانب حياتهم الشخصية والاجتماعية والفكرية والسياسية.

لقد أصّل الطاقة الجهادية والدعوية التي تملأ روح المسلمين وساعد على تطورها، محاربة حكام المسلمين اليوم لأصحاب الرأي وللمجاهدين وللحركات الجهادية مجتمعين أو متفرقين، ومع تنامي هذا الشعور الجهادي مع الأيام، تنبه أعداء المسلمين من الأمريكان والأوروبيين إلى كيفيةٍ يستغلون فيها هذه الطاقة الجهادية عند المسلمين، ليستفيدوا هم منها، فكان ما كان من قصة محاربة الإتحاد السوفيتي على أرض أفغانستان في الثمانينيات، وطرد الروس على أيدي الشباب المسلم المجاهد، بعد هلاك عدد كبير منهم،، ثم بعد أن انتهى دور المجاهدين قامت أمريكا بالإيقاع بين الحركات الجهادية في أفغانستان، وكان ما كان من حروب بينهم، حتى ترجّحت كفة طالبان، بعد مساعدة أمريكا لها، ثم قامت أمريكا وحلفاؤها بالحرب على صنيعتها طالبان، وأودعت أكثرهم سجون غوانتنامو وغيرها، وقامت بملاحقة المجاهدين في أفغانستان والعالم الإسلامي حتى اليوم.

بعد هذه الأحداث كلها تعززت فكرة تكفير الحكام القائمين في العالم الإسلامي والتي كانت وما زالت تتبناها حركات نهضوية جهادية، تعتمد فكرتها على أن هؤلاء الحكام لا يحكمون بما أنزل الله، وبالتالي فهم كفار، ويعطلون أحكام الله، ويجب إزاحتهم، أي قتالهم ومقاتلتهم ليحل محلهم الحكم بالإسلام، وإقامة دولة الخلافة الإسلامية مكانهم.

على أصل هذه الفكرة قامت أفكار متفرعة من هذه الفكرة، فالحكام المراد قتلهم أو مقاتلتهم تحيطهم عدة أسوار، أول هذه الأسوار علماء السوء والمفكرين الموالين، وسور ثان من ورائه من المنتفعين من النظام القائم والأنصار، وسور ثالث يليه من قوى الاستخبارات والمباحث، ثم سور رابع من قوى الأمن ومحاربة الإرهاب، ومن ورائهم سور خامس من قوى الجيوش الضاربة، فكان لا بد للحركات الجهادية أن تستصدر رأياً فيما يتعلق برجالات هذه الأسوار، فلم تجد ما تفتي به إلا بتكفيرهم جميعاً والأمر بإنزال السيف على رقابهم واستباحة دمائهم وأموالهم، حكمهم بحكم وليهم الحاكم، كما يرون.

وهنا بدأت فتنة لم تنتهي ولن تنتهي بنهاية أحد الطرفين، أو كلاهما، فلا القاتل من أحد الطرفين سيحظى بالانتصار، ولا المقتول سينهزم بهذه الكيفية، ولن يكون هناك تغيير تهنأ بثمرته الأمة الإسلامية على أنقاض القاتل أو المقتول، بل هو في أحسن أحواله تدمير وليس تغيير، وتعطيل لنهضة الأمة وتأخير.

هذا هو حال المجاهدين والحركات الجهادية الراغبة في التغيير، وهذا هو المنهج الذي تنحوه نحو التغيير، وفي الحقيقة أنها للأسف لا تمتلك منهجاً للتغيير خال من العيوب والأخطاء الشرعية، والذي يُكفّر فيه كثير من المسلمين العوام والخواص، وتحيط أعمالهم وبعض أفكارهم كثيرٌ من الأفكار والانفعالات المشاعرية والحماسية الغير منضبطة سياسياً أو شرعياً، بالرغم مما ذكرنا آنفاً من تحلي المجاهدين بالإيمان الصادق، والإخلاص والتضحية وطهارة النفوس.

يفتقد المجاهدون والحركات الجهادية والنهضوية الطامحة للتغيير إلى مقومات الحركة الناجحة والمؤهلة للتغيير، من أهم هذه المقومات النقاط التي ذكرناها في الحلقة السابقة من السلسلة، إضافة إلى أنه يفتقد أفرادهم "وحدة الفكر"، التي تعتبر عاملاً أساسياً في وحدة الحركة، ووحدة منهجها، وكذا وحدة هدفها، وهذا يتسبب في دوره في تمزقهم وتفرقهم، وتبدد همتهم وأعمالهم، وذوبانهم كمن سبقوهم.

وضع الجماعات الجهادية بهذه الكيفية المنهجية خطر عليها، بل قد يعرضهم هذا الوضع إلى خطر أكبر من هذا داخل الجماعة، فقد يتم اختراقهم بسهولة فكرياً أو استخباراتياً، فيتعرضون لبعض الدهاة من الأعداء (أياً كان هؤلاء الأعداء من داخل الحركة أو من خارجها) فيوجهونهم لأهداف غير التي رسموها أو كانوا مختلفين عليها أصلاً، أو لأهداف كانت غير مبلورة في فكرهم.

الأفراد والجماعات الجهادية بالكيفية التي وصفت وكونهم مقاتلين من الطراز الفريد، هدف سهل لاستغلال الدول لهم، من استخبارات الدول التي ينتمون إليها، أو من دول عالمية كأمريكا وأوروبا وروسيا، أو من أحزاب فيها، في تحقيق أهداف سياسية عالمية (كما حصل في أفغانستان)، أو تحقيق أهداف قطرية داخل الدولة، ويستغلونهم في تغدية روح الصراع بين أحد الزعماء الجهاديين وبين منافسيه الآخرين على الحكم، وهناك من الأمثلة الشيء الكثير في العراق والصومال وأفغانستان وغيرهم.

لقد جعلت الجماعات الجهادية نفسها والإسلام لسوء كثير من التصرفات، هدفاً للإعلام الخبيث الذي صور الإسلام ورجالاته بمسميات عديدة إرهابية وهمجية وغيرها، ولا بأس من هذه التسميات في قاموسنا لو كان هناك هدف واضح مبلور بالإمكان الوصول إليه عاجلاً أو آجلاً.

قال الله تعالى في سورة محمد آية 14
أَفَمَن كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِّن رَّبِّهِ كَمَن زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءهُمْ
وقال تعالى في سورة الملك آية 22
أَفَمَن يَمْشِي مُكِبًّا عَلَى وَجْهِهِ أَهْدَى أَمَّن يَمْشِي سَوِيًّا عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ
وقال تعالى في سورة آل عمران آية 103
وَاعْتَصِمُواْ بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلاَ تَفَرَّقُواْ وَاذْكُرُواْ نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا وَكُنتُمْ عَلَىَ شَفَا حُفْرَةٍ مِّنَ النَّارِ فَأَنقَذَكُم مِّنْهَا كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ

هناك تعليق واحد:

  1. الله يجعلنا وإياك من المهتدين.. ويجزاك الف خير

    ردحذف