الحلقة الثانية والخمسون - الثورات العربية - الجزء الأول : حقيقة الثورات العربية وموقف الشعوب الإسلامية العربية منها


ما هو سبب هذه الثورات التي تحدث اليوم في العالم العربي؟ ماذا نسمي هذا التحرك الشعبي الشامل؟ هل نسميه ثورة أم نسميه ثورات؟ لماذا لم تقتصر الثورات على إقليم واحد من الأقاليم العربية؟ لماذا أخذت الثورة نفس الصورة في كل إقليم من الأقاليم تقريباً؟ هل هو مجرد انتقال ثورة تقليدية بين الدول؟ أم هناك إجماع نفسي وشعوري بالظلم في كل بلدان المسلمين العرب المقسمة؟ هل الثورات عربية أم هي ثورات إسلامية؟ هل الثورات الحاصلة هي ثورات حرة أم هي ثورات مفتعلة؟ هل هذه الثورات فاعلة مؤثرة أم هي هادمة وعبثية؟ هل هي ثورات الجوع المعروفة كالتي حصلت في دول أوروبا أواخر العصور الوسطى؟ أم هي ثورة النخب المثقفة والنهضويين؟ هل هذه الثورات ذات أهداف مدروسة أم أهدافها عشوائية وغير معلومة الأهداف؟ هل هي إرهاصات لواقع قريب قادم؟ أم هي ثورات تصب فقط في إصلاح بعض الأحوال المعيشية؟ أم يقف وراءها التغيير الكلي لواقع مظلم على واقع مشرق؟ وهل هي ذات روح إصلاحية أم ذات روح للتغيير؟ وهل التغيير فيها إلى خير الشعوب أم هو تغيير إلى واقع أسوأ؟ ما هي شروط النجاح لهذه الثورات ليتحقق ما يحبه الناس ويسعون له؟ وما هي محاذير فشلها؟ ما هو دور الإعلام المحلي والعالمي العربي في هذه الثورات؟ هل للثورات تأثير على الاقتصاد العالمي أو الإقليمي؟ أو تأثير على السياسة العالمية؟ أو على أي أنظمة أو كيانات عالمية أو محلية؟ أو تأثير على التركيبة الاجتماعية موضع الثورات؟
عندما كنت أتحدث عن تغيير واقع الأمة في حلقات السلسلة السابقة، كنتُ على يقين من تغيّر واقع الأمة وذلك من خلال دراسة الواقع الحالي للأمة الإسلامية والعربية خاصة، دراسة نظرية وعلمية، وكنت حريصاً على أن تكون الأمة على وعي وعلم تام بحقيقة ما يجري حولها، ابتداء من الفكر الذي يصنع هويتها الحالية ويشكل واقعها الحالي، مقارنة مع الفكر الذي ترتضيه وتحب أن تحمله وتعيش به، ومروراً بالشرائح الموجودة من فئات المجتمع المختلفة صنيعة هذا الفكر الذي تقوم على تطبيقه الدول الكرتونية القائمة.
وكان لا بد لي في حلقات السلسلة أن أبين للأمة الإسلامية المطلب الحقيقي الصحيح الذي يجب أن تطالب به الأمة وتجعله موطن اهتمامها، وتجعله روح حياتها، والطاقة التي تحركها، بل وأبين لها في حلقات عديدة صفة الدولة والأنظمة التي يجب أن يعيشوا بها.
وها لمْ نلبث كثيراً،، حتى وبدأت حركة غريبة في تونس لم يُعرها أحدٌ اهتماماً في بادئ الأمر، وخاصة أنها بدأت بحرق أحدهم لنفسه، مما تُنكره فطرة النفس البشرية ومما ينكره شرع الإسلام، ولكن بعدما ظهرت الحقيقة تبين للناس أن هذا الإحراق لم يكن كأي إحراقٍ للنفس، ولكنه كان إحراقاً يحمل تميّزا خاصاً في حالته، وذو حقيقة فريدة من نوعها، فقد انطلق من أنموذج بشري، من شاب في ربيع عمره، عقيدته إسلامية، أي من مجتمع مسلم، وينتمي إلى عالم إسلامي فسيح، هذا العالم يعيش كله نفس الواقع الاقتصادي والفكري والسياسي والاجتماعي مثل هذا الشاب، وكله يشتكي من واقع مهين ومذل كحال هذا الشاب كما نعلم، هذا الحال الذي وصل من الشدة ما لم يعد يكترث أحدُ أجمل شبابه أن يحرق نفسه وجسده في وضح النهار، أمام أعين الناس وأبصارهم، وأمام ذيول مجرمين عتاة فاسقين من الجند.
لقد نقل هذا الأنموذج إلى كل العالم الذي يعيش مثله من الشباب والشيب رسالة يقول لهم فيها: أن تحرقوا أنفسكم خيرٌ لكم من أن تعيشوا هذا الذل وتتجرعوه وأنتم خانعون، وهكذا وصلت الرسالة سريعاً إلى كل القلوب والأبصار والأسماع، ودوّت عالية في كل أجواء العالم العربي، بالرغم من أن كاتبها لم يسعَ يوماً لإرسالها، أو إيصالها لأحد، مما أعطى الرسالة هذه وقْع أعظم وأشد على كل الناس مما لو كانت مقصودةً.
وهكذا كانت فعلة محمد بو عزيزي غفر الله له ورحمه، كانت كالموجة التي بدأت صغيرة وانتهت لتغرق العالم العربي بأكمله.
ولذلك كانت ثورة سيدي بوسعيد عظيمة وتحاكي قلوب وعقول وأفئدة كل المسلمين، وخاصة بعد أن جرفت معها طاغية تونس في غضون أسابيع من الزمان، وكأنها ريح عاتية، وهكذا رسمت ثورة سيدي بوسعيد، وفي تونس منهاجاً للثورة لم يكن معهوداً أو يخطر في بال أحدهم، ولم يكن يخطر في بال الثوار أنفسهم، حتى لم يخطر في بال الاستخبارات الغربية أو الشرقية التي تمسك بزمام كراسي حكام البلاد الإسلامية العربية، فخطّت ثورة تونس ورسمت في أيام منهجاً ثورياً فريداً من نوعه، وأثبتت أنها ذات قوة وشوكة تفوق الجيوش وأعتا الأسلحة، وتطعن متحديها في صدورهم مباشرة.
هل الثورات القائمة مؤامرة من الغرب؟
لم تكن ثورة تونس أو ما تبعها من ثورات كما يدعي المغرضون أنها من فعل المؤامرات المعتادة. إن دول الاستعمار في الدول التي تحتلها، ووضعتها تحت مظلتها، (كما هي الآن في صورة دول فرانكفونية أي تابعة لفرنسا أو دول كومنولث تابعة لبريطانيا أو تحت الستار الأمريكي السكسوني كما يسمونهم التابعة للولايات المتحدة الأمريكية)، تفتعل عادة ثورات مقصودة في أحد هذه البلدان التابعة لهم بواسطة أصابع فتنة خفية إذا ما أرادوا تغيير أحد الحكام أو نظامه، الذي احترقت أوراقه عند شعبه أو عند أوليائه ولم يعد قادراً على استيفاء مطالب أوليائه، وإما أن أحد عملائهم من الحكام قد أخذته العزة بالإثم في حق أوليائه المحتلين من الأمريكيين أو البريطانيين أو الفرنسيين أو غيرهم، وتراجعت طاعته العمياء لهم، أو يكون السبب في إشعال نار ثورة في أحد البلدان ناتج عن تنافس أحد طرفي احتلال من الدول العظمى في هذه البلاد فيستخدم كل منهم أو أحدهم الشعب ضد الحاكم حتى يؤول الأمر للفئة الغالبة ولوليّه الذي أعده لحكم البلاد، فيتغير ولاء الدولة كاملة للدولة الأخرى المستعمرة التي أشعلت الثورة،، وهكذا يفعلون، يغيّرون هذا الحاكم بحاكم غيره مما في جعبتهم من الرجال المُهيّئين لأيام كهذه، أما مادة الثورة التي يستخدمونها دوما فهي الإصلاح أو الحرية أو المساواة أو العدالة من هذه الشعارات البراقة التي تهفو لها قلوب العبيد، وهذا الواقع يسري على كل البلدان الإسلامية بدون استثناء ودولها.
ثورة تونس والتي امتدت لباقي العالم الإسلامي العربي اليوم لم تكن كأي من هذه الصور للثورات المفتعلة التي يصطنعها الكافر المستعمر في أحد البلدان التابعة له. وليست هي كالمظاهرات التي تحدث في أوروبا أو أمريكا المحتجة على أحد قرارات الحكومة، أو المطالبة بتعديل نظام أو تقرير قانون، وليست هي كالثورات التي تحدث بسبب الجوع والفقر في أحد دول العالم الثالث الغير إسلامي.
نظرة رجل الشارع المسلم العربي للثورة:
نعود لرجل الشارع العربي المسلم ونظرته للثورة القائمة اليوم، فرجل الشارع العربي المسلم لم يصنع اليوم ثورةً بفكره بقدر ما صنع الثورةَ بؤسُه وشقاؤه، هذا البؤس والشقاء الذي بلغ أكثر من مداه بأضعاف مضاعفة هو الذي صنع الثورة، أي أن رجل الشارع العربي لم تكن يوماً تساوره ثورة، أو كان يرى أن لديه القدرة على ثورة ما، أو أنه كان يؤمن يوماً بأن ثورة ما ستكون له رهناً لتغيير واقعه، أو أنها قادرة على إزالة هذا الحاكم أو ذاك وإطاحته من فوق كرسيه على بطنه.
هل نسمي ما يحصل ثورات أم ثورة، وما هو المهم في أمر التسمية؟
لو نظرنا إلى العالم الإسلامي والعربي بشكل خاص لوجدنا أنه قد تعرض جميعه سابقاً إلى ظرف واحد، شكل له هوية واحدة اليوم، فلا يختلف بؤس وشقاء المغربي والجزائري عن شقاء ابن الشام والعراق أو ابن مصر أو ابن اليمن أو حتى ابن ما يسمى بالسعودية الفائقة الثراء هي وليبيا، أما شقاء وبؤس أبناء شرق الجزيرة العربية فهو شقاء من نوع فريد كالنحل الذي يغرقه أحدهم في العسل المصفى.
لقد واجه العالم الإسلامي والعربي خاصة، احتلالا شاملاً عاماً متجانسا، غير معهود في التاريخ، بعد هدم دولة الخلافة الإسلامية في مطلع القرن العشرين، وبسقوطها واجه العالم الإسلامي والعربي خاصة زوال كل من تبع الخليفة من ولاة المدن والقرى ومن أصحاب الرأي والسلطان والحكم والقضاء الإسلامي في كافة العالم الإسلامي، وبزوال الخلافة وزوال دولتها وخلفائها وولاتها، حل محل هؤلاء النقيض منهم من ملوك مطلقي الصلاحية وحكام أو مجالس حكم انتقالي أو مؤقت ورؤساء وأمراء وغيرهم، يدعون الحكم بالإسلام وبأحكام تشبهه وفي الحقيقة يحكمون بغير ما جاء في الإسلام إطلاقاً، كان الغرض من هؤلاء الذين عينهم المحتل وأرسى قواعد حكمهم وسلطانهم في البلاد بالحديد والنار أو بالمكر والحيلة والكذب والخديعة، كان الغرض منهم أن يكونوا بوابات مفتوحة لا تُغلق للمحتل لبسط سياساته ونفوذه وسلطانه على بلدان المسلمين الغنية وخاصة العرب منهم، وبأن يجعل كل هذه البلدان مرتعاً خصباً له بنهب ثرواتها من جهة ومن جعل هذه البلدان أسواقاً استهلاكية من جهة أخرى، لا تصنع ولا تزرع ولا تعصر، والعمل على أن تُنسى هذه الشعوب شيئاً اسمه الإسلام أو الحكم بالإسلام، أو تُنسى على الأقل أن الإسلام لا يكون حقيقة وواقعاً إلا بدولته ونظام حكم الخلافة فيه.
وبالتالي أصبح هؤلاء الذين أتي بهم الاستعمار شركاء حقيقيين في الاحتلال، يحاربون من يحاربه ويكرمون من يوافقه، وحيث أنه نفس العدو باختلاف مسمياته (فرنسي بريطاني روسي ألماني أمريكي وغيره)، وباختلاف أشكال نواطيره، وحيث أنه نفس السيناريو المطبق في فترة زمنية واحدة أو متقاربة جداً، فقد أعطى البلدان العربية كلها هوية سياسية واقتصادية واحدة، وسقوطاً اجتماعيا شاملاً ومتشابها في صورته، وفي تدهوره وبؤسه وشقائه وعبوديته وذله وهوانه. حتى انصبغت البلدان العربية كلها بنفس الصبغة والتخلف، وكأنها من صنع رجل واحد.
وبالتالي فإن تسمية الثورة هي أصدق وأكثر مطابقة للحقيقة من تسمية الثورات، فالبلاد الإسلامية العربية واحدة، وشعوبها كانت وما زالت شعباً واحداً بالرغم من الحدود الاستعمارية، وعقيدتها واحدة، وهي تحمل نفس الروح والجسد، وتحمل نفس العبودية والذلة والبؤس والشقاء والهمّ، ومطلبها لو سبرنا أغواره لوجدناه واحداً، وهو الإسلام وطلب العزة بالإسلام لا بغيره، ولذلك فإن حقيقة ثورة اليوم هي ثورة واحدة، وزحف واحد، من جسد واحد وروح واحدة، ضد الاحتلال أو الاستعمار (سمه ما شئت) وضد أزلامه الحكام العرب، فهي ثورات في الواقع ولكنها في الحقيقة ثورة واحدة.
قال الله تعالى:
{ أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقَاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَإِنَّ اللَّهَ عَلَى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ } الحج 39
وقال سبحانه وتعالى:
{ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَانتَصَرُوا مِن بَعْدِ مَا ظُلِمُوا وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ } الشعراء 227
وقال تعالى في سورة الرعد 11:
{ إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ }

هناك 3 تعليقات:

  1. لن تنجح هذة الثورات فى الدول الاسلامية الا اذا وحدوا الهدف واتحدوا جميعا فى كل ارجاء العالم الاسلامى ليصبحوا امة واحدة. كيان واحد . واقتصاد واحد . وسياسة واحدة. حينها وحينها فقط تصبح لهم الكلمة الاعلى فة العالم ويعلم العالم ان الاسلام هو الدين والشريعة هى قانون التعايش على الارض

    ردحذف
  2. كلامك صحيح يااخي الفاضل لكن الكاتب يتحدث عن شيء اخر

    ردحذف
  3. الدول العربية هى أصلا شعب واحد عاش طويلا ولقرون عديدة تحت راية الخلافة فإصطنع له الإستعمارالأجنبى الحدود لتقسيمه إلى دول ليسهل على المستعمرين سرقة ونهب بتروله وموارده الطبيعية يعاونه فى ذلك العملاء من الرؤساء والملوك فمن الطبيعى أن تكون الثورات الحادثة الآن هى أجزاء من ثورة واحدة هدفها توحيد الشعب الواحد كما كان فى السابق

    ردحذف