الحلقة التاسعة والعشرون - مفهوم الرزق

-->
الجزء الثاني

 أما الجانب الثاني من الرزق : فهو خاص بالله سبحانه وتعالى، والإنسان فيه في دائرة لا يد له فيها ولا إرادة ولا فعل، فقد جعل الله الأرض لكافة الناس جميعاً رزقاً من عنده لهم، بما فيها من جبال وبحار وأنهار وثروات وزروع، وقدّر فيها المعايش، ولم يجعل لأحد من خاصتهم أو عامتهم ما يميّزه به عن غيره من كافة الناس.

وعندما كان لا بد من تنظيم حياة الناس السياسية والإقتصادية والإجتماعية في الأرض، ونخص هنا بالذكر الحياة الإقتصادية، والإسلام الذي نزل على لسان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أنزل الله للناس نظاماً يبين لهم فيه كيفيه التعامل مع الأرض وثرواتها حتى لا يستأثر بها أحد من الأقوياء الظالمين، فشرع لهم فيها ما هو ملكية عامة لكافة الناس، وما هو ملكية خاصة، ومنع أحدهم من عامة الناس أو ساداتهم أو أمرائهم أو خلفائهم من التصرف في هذه الملكية العامة أو الأخذ منها، فجعل الأرض ملكاً للناس أجمعين، ونظم عملية توزيع الأراضي الزراعية، وجعل الأرض البوار مشاعاً، وجعل ثروات الأرض كذلك ملكاً عاماً للناس أجمعين، تتكلف الدولة بتوزيعها على الناس بنظام معلوم، وأنظمة إقتصادية بأحكام لا حصر لها ولا مجال لذكرها هنا، تخدم كيفية توزيع رزق الله الذي جعله في الأرض ملكاً للناس أجمعين، هذا الجانب هو أعظم جانب من جوانب الرزق.

فإن فرط الناس في طريقة توزيع رزق الله وتصريفه كما أمر الله سبحانه وتعالى في كتابه وسنة نبيه، وإن فرطوا في الضرب على يد الظالم حاكماً كان أو محكوماً، رئيساً كان أم ملكاً، أمريكا كانت أم أوروبا، منظمة التجارة العالمية أو البنك المركزي أو غيره، إن حصل ذلك، فليبشروا بالفقر، الذي يلعق مرارته المسلمون اليوم، ويرون بأسه بأم أعينهم، ويعيشون أحداثه، التي هي صنيعة أفعالهم، وصنيعة رضاهم بالحكم بغير ما أنزل الله، وليلوموا أنفسهم، ولا يقولوا أن الله لحكمةٍ منه قصر في أرزاقهم.

وهناك جانب آخر، غير الذي ذكرنا من أمر الله، والتي هي من خاصة أفعال الله سبحانه وتعالى، وهو أن الله قد يسوق الرزق، في حالات خاصة، لأشخاص معينين، في أوقات معينة، وفي حالات معينة، دون أن يكون لأحدهم مثقال عمل من الأعمال، أو سبب قام به، وقد يمنعه عن أناس لحكمة هو يراها وهم يسعون في طلب الرزق سعياً حثيثاً، وليس لنا علم بأسرار ما يفعله الله سبحانه وتعالى .

وكذلك ما أكده الله لعباده، وما أكده لهم رسوله محمد صلنوات الله وسلامه عليه  عن حالات معينة خاصة يرزق عباده فيها، فقد تكفل الله سبحانه وتعالى بالرزق للمستعفف، وللزوجة، والأبناء، والضيف، وللمنفق في سبيل الله، وللمتصدق على الفقراء والمساكين من ذوي القربى، وغير هؤلاء، فهؤلاء وغيرهم قد وعد الله برزقهم رزقاً خاصاً، حتى ولو لم يقوموا بما هو من موجبات الرزق، إضافة إلى تنظيم هذه المسائل من قبل بيت مال المسلمين، الذي ليس له واقع الآن .

هذه هي الجوانب من الرزق التي يجب على المسلم معرفتها بحق بعد أن ضلله الحكام وعلماء السوء عنها، لذا فإنه من الخطأ أن يقعد الناس عن المطالبة بحكم الإسلام، والمطالبة برفع الظلم والقهر والعبودية عنهم، ومن الخطأ أن يتركوا العدو الكافر المستعمر يتحكم في مصائرهم .

وإنه من الخطأ الظن بالميل إلى حل مشكلة الفقر والفقراء والتخلف والضياع عند المسلمين بالأعمال والجمعيات الخيرية، وترك الحكم بما أنزل الله، وأن ينشغل الناس بفقر الفقراء، ومرض المرضى، وحاجات الناس ومصائبهم، التي حلها يكون أصلاً بتطبيق حكم الله في الأرض، وليس كما يقوم به بعض الرأسماليين المحسنين، أعوان الحكام الظالمين وغيرهم، برفع الفقر عن بعض العوائل، وقد عم الفقر والمرض والجهل كل الناس بسببهم، وسبب وجودهم وتوجههم وفكرهم أصلاً .

يستمرئ كثيرون حلولاً سطحية لمشاكل الجوع والفقر، ويستمرئون أفكار المساعدات الإنسانية وغيرها من الحلول الترقيعية، من منطلق: بدلاً من أن لا نفعل شيئاً وننطلق للمطالبة بحكم الله ويموت هؤلاء وأولئك بالجوع، نقوم نحن بفعل أي شيء .

فنقول لهم إن للإنسان فعْل أي شيء يريد، وبأي فكرة يريد، حتى ولو كانت بكيفية مخالفة للكيفية التي علمنا إياها الله سبحانه وتعالى، إلا أن أوامر الله يكون تنفيذها بكيفية معينة، وليست بكيفية مخالفة لما أمر، والله جل وعلا هو الأعلم بكيفية رفع الفقر والجوع عن الناس، فمن أراد القيام بأفعال الصدقة لا يقوم بها بالكيفية الرأسمالية، التي تقوم بنهب الشعوب وثرواتهم وأراضيهم كاملة، ثم تعود عليهم ببعض المال، تحت مظلة الصليب والجمعيات الخيرية، ولو قام أحدهم بالكيفية الصحيحة ولكنه لم يقم في نفس الوقت بالدعوة إلى الحكم بالإسلام في النواحي الإقتصادية وغيرها كاملة، فقد أحدث في الإسلام منكراً، وأعان على تحريف مفاهيم الإسلام عن الرزق والعبادة والدعاء وغيرها .

إن من الخطأ أن يمتنع أحدهم عن الدعوة في سبيل الله مخافة أن ينقطع رزقه، أو أن يقعد عن الإنفاق في سبيل الله، أو يمتنع عن الإنفاق على من يعولهم مخافة الفقر، أو أن يقوم بالامتناع عن النفقة في الأوجه الواجبة استئثاراً بالمال لنفسه أو لكنزه، فإن فعل ذلك فإنما يدل على خلل تفكير هذا عن مفهوم الرزق، وأن الرزق بيد العباد وليس بيد الله، ولكن الرزق بيد الله، وهو المعطي وهو المانع، ووعد الله ورسوله r حق، بأن يعطي ممسكاً تلفاً، وأن يعطي منفقاً خلفاً .

وإن من الخطأ أن يكسب الإنسان ماله من الأوجه الحرام، أو يوجه تقديسه وسؤاله لحملة الأموال وإستجداءهم، وهو دلالة على أنه يؤمن بما في أيدي الناس من مال وخير، ولم يؤمن بما في يد الله من خير، وأن الخير كله والرزق المبارك من عند الله، حتى ولو قل أو تأخر حصوله .

وكما أن التقتير بالمال الحلال حرام (أي مسكه عن الصرف في الأوجه الواجبة)، فكذلك محرّم إسرافه (أي صرفه في الأوجه الحرام)، وكذلك مُحرّم تبذيره في الحلال (أي صرفه في غير حاجة)، والخلل هنا يشير إلى الثغرات في فهم الإنسان في كيفية التعامل مع المال الذي رزقه الله إياه، فالمال هو مال الله سبحانه وتعالى، وقد إستخلف الإنسان فيه .

ومن الخطأ أن يرفع أحدهم يديه متضرعاً إلى السماء طالباً الرزق وهو نائم في بيته، أو مسرفاً ماله، أو مُقتراً به، أو مبذراً إياه، أو طالباً الرزق وهو يكفر أو يشرك مع الله إله آخر، أو وهو ناهباً هذا وسارقاً ذاك وآكلاً ماله بالسحت، أو أنه لا يعرف الله ولا يصلي له ولا يؤمن بحق عبادته وطاعته والولاء له مخلصاً، أو لا يقرأ القرآن إلا لإستخدام القرآن أو بعض آياته للحصول على المال وتوسيع الرزق، أو أنه إن ضاقت به الدنيا وعجز في كسب المال من كل من آمن بهم من غير الله، قام متضرعاً إلى الله مجرباً الدعاء بالرزق عسى أنه ينفع، وليس متيقناً بالإجابة، وليس هو أصلاً في حال يستحقها .

ولذا لا نعجب اليوم ونحن نرى أئمة المساجد والمصلين معهم، وهم يتضرعون إلى الله ويستسقونه الماء والمطر والرزق، ولكن لا يجدون الله يجيبهم، لأنهم في حال الظالمين أو المشركين وغيرهم الذين لا يستحقون أن ينظر الله إليهم، في الحين الذي كان أجدادنا لا يفرغون من صلاة الإستسقاء، والسماء صافية، إلا وهي قد انهمرت عليهم بالمطر، وصبت عليهم الماء، وأنبتت الزرع وأسقت الضرع وهم ينظرون .

يقول الله سبحانه وتعالى في سورة العنكبوت 17
إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً، فابتغوا عند الله الرزق، واعبدوه، واشكروا له، إليه ترجعون

وقال تعالى في سورة سبأ 39
قل إن ربي يبسط الرزق لمن يشاء من عباده ويقدر له، وما أنفقتم من شيء فهو يخلفه، وهو خير الرازقين

وقال تعالى في سورة يونس 59
قل أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزق فجعلتم منه حراماً وحلالاً، قل ءآلله أذن لكم، أم على الله تفترون ؟

وقال تعالى في سورة البقرة 60
كلوا واشربوا من رزق الله ولا تعثوا في الأرض مفسدين

هناك 3 تعليقات:

  1. السلام عليكم ورحمةالله وبركاته يادكتورمحمد..لن أتصادم مع رأيك في تقسيم خيرات الأرض وثرواتها ولاكن احب أن اضيف جزء إن سمحت لي طبعا..أبتغي فيه إرضاءوجه الله ثم المنفعه منه إنشاءالله قديكون الفقرلبعض الناس أنفع,والغنى لبعض الناس انفع كما في الحديث الذي رواه البغوي وغيره عن الرسول صلى الله عليه وسلم فيما يروي عن ربه تبارك وتعالى (إن من عبادي من لايصلحه إلاالغنىولوأفقرته لأفسده ذلك.وإن من عبادي من لايصلحه إلاالفقرولوأغنيته لأفسده ذلك.وإن من عبادي من لايصلحه إلاالصحه ولو أسقمته لأفسده ذلك وإن من عبادي من لا يصلحه إلا السقم ولوأصححته لأفسده ذلك. أني أدبر عبادي,إني بهم خبيربصير)في كتاب ابن القيم الجوزيه في عدة الصابرين وذخيرة الشاكرين.

    ردحذف
  2. أحسنت ، بارك الله فيك وبك وجعلني وإياك ممن يسمعون القول فيتبعون أحسنه، ولله في خلقه شؤون، وهو المدبر الحكيم
    جزاك الله خيراً

    ردحذف
  3. حلقة ممتازة وياليت الكل يعي هذه المفاهيم . فمن خﻻل التطبيق الفعلي لشرع الله يسعد ويرتقي المسلمون.جزاك الله خيرا

    ردحذف