الحلقة الواحد والستون الإسلام عقيدة وشريعة ودولة



الإسلام عقيدة وشريعة ودولة

(أَوَمَن كَانَ مَیۡتا فَأَحۡیَیۡنَـٰهُ وَجَعَلۡنَا لَهُۥ نُورا یَمۡشِی بِهِۦ فِی ٱلنَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُۥ فِی ٱلظُّلُمَـٰتِ لَیۡسَ بِخَارِج مِّنۡهَاۚ كَذَلِكَ زُیِّنَ لِلۡكَـٰفِرِینَ مَا كَانُوا۟ یَعۡمَلُونَ) [سورة الأنعام 122]

1)    لزوم الأنظمة لحياة الإنسان عند الأفراد والمجتمعات والدول:
لا بد للإنسان الذي يعيش في هذه الحياة الدنيا أن يعيش بكيفية معينة وبنظام معين، هذا النظام، إما أن يكون نظاما عشوائيا أو فوضويا بحسب ما تمليه عليه ظروف الواقع، أو نظاما راقيا معلوما، له أحكام ثابتة، ولهذه الأحكام قواعد وأصول، يشكل بها الواقع والظروف ويُسيّر حياته بحسبها. وكما ينطبق هذا السلوك على الأفراد فهو ينطبق كذلك على المجتمعات والأمم بنفس الكيفية.
أما فيما يتعلق بالأفراد، فالفرد تحكمه العلاقات بالمحيط الذي حوله وبهذه الحياة الدنيا، تؤثر في تلك العلاقات مسألتان رئيسيتان، الأولى غريزية، والأخرى فكرية، أما الغريزية: فالغرائز والحاجات العضوية التي يمتلكها الإنسان تحكم مسار حياته الطبيعية وميوله وهواه، فكل البشر مسيرون بهذه الغرائز والحاجات العضوية على حد سواء، وأما الفكرية فهي قرار الإنسان واختياره للقاعدة الفكرية التي يسير بها حياته، وعلى أساسها يقرر بها علاقاته مع غيره، ويقرر بها مواقفه الفكرية والسلوكية تجاه الحياة وتجاه قضية وجوده في الحياة وما بعد الحياة، أي مسألة مصيره فيما بعد الموت. وهذا الموقف الفكري أو لنقل القاعدة الفكرية أو العقيدة هي موضع اختلاف البشر.
أي أن البشر يتفقون جميعهم خلْقا بدون استثناء على وحدة الغرائز والحاجات العضوية، ولكنهم يختلفون جميعا في التوجه الفكري، أي القاعدة الفكرية، أي العقيدة.
وعلى نفس النسق: المجتمعات، المتكونة أصلا من الأفراد، فقد تجتمع تلك المجتمعات على فكر واحد، أي على قاعدة فكرية واحدة، أي على عقيدة واحدة، ترسم لها عادات معينة وتقاليد وأعراف ثابتة ذات مرجعية واحدة وقيادة واحدة، فيتكون لدينا مجتمع واحد متماسك، بهوية واحدة وفكر واحد. وقد تختلف أفكارها، فيصبح الفرد يعيش في المجتمع فردا منقطعا عن أفراد المجتمع الآخرين حتى عن أقرب المقربين منه، لا تربطه بمن حوله عادات أو تقاليد أو أعراف، لا يربطه بهم غير تبادل المصالح واستجلاب المنافع، فيتكون لدينا هنا مجتمعات مختلفة ومتناقضة ذات هوية مشوشة وتوجهات مختلفة، ولا تتميز بعادات أو تقاليد أو أعراف منضبطة ذات مرجعية واحدة.
أما عن الدول فلا يمكن لدولة أن تنشأ أو تبقى من دون أن يكون لديها أنظمة تتولى شؤون الناس، أي تسوسها، في مسائل الحكم والاقتصاد والقضاء والسياسة الداخلية والخارجية وغيرها من الأنظمة المعهودة في الدول، هذه الأنظمة لا يمكن أن يتم القرار في ماهيتها وأحكامها إن لم تكن قائمة على فكرة معينة، أي على عقيدة محددة يجتمع عليها الناس أو الشعب ويرتضونها، فيبايعون أو ينتخبون حاكمهم عليها وعلى ما تقرره ما يحملون من عقيدة، لأن من خلال عقيدتهم تنطلق الأحكام التي يرتضونها، فإذا ارتضوها استقرت أمورهم وهدأت أحوالهم. فتكون هي العقيدة التي تنبثق منها الأحكام.
2)    المبدأ الرأسمالي والمبدأ الشيوعي
هذا الواقع هو الذي يقرراختلاف المباديء بتسمياتها وبالأدق بمسمى عقائدها، فمن خلال العقيدة يتقرر اسم المبدأ، وبالتالي فإن لدينا مما رأيناه وسمعناه وعايشناه منذ قرن من الزمان وزيادة مبدئين بارزين، وهما المبدأ الرأسمالي الديموقراطي، والآخر الشيوعي الاشتراكي.
اعتمد المبدأ الرأسمالي في عقيدته إهمال قضية الدين واستبعاد أفكاره أو أي شيء من أحكامه في الحكم والتشريع، واعتماد الحريات في جميع القضايا والأحكام المتعلقة بالفرد والمجتمع والعلاقات، أما المشرع الأساسي لأنظمة الدولة فهو الشعب.
واعتمد المبدأ الشيوعي إلغاء فكرة وجود الله البتة وحقيقة وجوده، والإعلان الصريح بالكفر في صفة الدولة وعقيدتها، بل وحارب هذه الفكرة بقوة الجندي بالحديد والنار، وعلى ذلك بنى كل الأحكام التي وضعها للناس من خلال أنظمة اقتصادية وسياسية واجتماعية غريبة وشاذة يشرعها الحزب القائم حسب التطور المادي على حد زعمهم، وليس فيها شيء من الدين ولا من الحرية، إلا في العلاقات الشخصية.
3)    كيف ينظر الناس إلى الإسلام اليوم:
وهنا بصفتنا مسلمين اليوم ننظر إلى ما في أيدينا من دين، لنتعرف على ماهيته ونتعرف على حقائق قد غُيبت على كثير من الناس، وخاصة على الأجيال الحديثة، حيث قُدّم الإسلام على أنه دين عقيدة بلا نظام، أو دين صلاة وصيام، أو دين أخلاق، أو دين استسلام للواقع، حتى بات بعض سفهائنا يطالبون أو ينادون بدولة مدنية أو علمانية أو دولة هجينة، أي إسلام معجون بالفكر الديمقراطي أو الاشتراكي، وظن بعض المفتونين أو المضبوعين بالنهضة الغربية أن الدين الإسلامي يحارب النهضة الصناعية والتقنية والمدنية، أو أنه ليس قادرا عليها، فارتد بعضهم أو كاد عن الإسلام، بزعمهم أن الدين الذي لا ينفع أصحابه ليس جديرا بالاتباع. دون حساب جهلهم بالدين الإسلامي، ودون النظر إلى أخطائهم أو إهمالهم وتقصيرهم، أو لأنهم لا يريدون أن يجهدوا أنفسهم بتكاليف غير قادرين عليها، فالاستسلام للواقع أيسر وأجدر وأقل كلفة.
الذين انطلقوا من فكرة فصل الدين عن السياسة واقتنعوا بها من أبنائنا، قد لا يعلم أكثرهم ما معنى السياسة، ولا يدري ماهو الإسلام، ولا يدري ما معنى النهضة، ولا يدرون كيف تنهض الأمم، فلننظر إذن ماذا فعل محمد بن عبد الله، الرجل الذي قامت على كتفيه وصحابته الكرام أعظم دولة في العالم قوة وثباتا واستمرارية وعدلا وعلما وعملا.

4)    كيف نشأ الإسلام كمبدأ، عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام:
من المؤكد أن فعل الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه في مكة كان من أعظم الأعمال السياسية العظيمة التي علمها الله سيدنا محمد وعلمها لنا، ولولا الرسالة لما علم بها محمد بن عبد الله ولا فكر بها. لقد التف حول سيدنا محمد صلوات الله وسلامه عليه كل من كان يحمل في قلبه صدقا عظيما، وقد كان هذا الصدق هو الذي قرر حقيقة الإيمان بالله وبرسوله وبرسالة الإسلام واتباع الحق وترك الضلال، كما قال الله سبحانه وتعالى (مِّنَ ٱلْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُواْ مَا عَٰهَدُواْ ٱللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُۥ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُواْ تَبْدِيلًا) الأحزاب – 23
ولقد رأينا كيف استخلص الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه أصدق الرجال وأحسنهم من بين الناس، ليكونوا الأرض الخصبة التي أثمرت وصنعت المعجزات.
لقد بينا في اللقاء الأول كيف صنع الرسول صلوات الله وسلامه عليه بأولئك الرجال القلة في مكة دولة عظيمة اكتسحت فيما بعد كل قبائل العرب الأقوياء والأبطال والأشاوس في الجزيرة العربية، واكتسحت كياناتهم، ثم اكتسحت فارس وبيزنطة (يقابلها أمريكا وروسيا اليوم)، أي أننا يجب أن ندرك أن أهم مقومات النهضة للرجال ومنها إلى إنشاء الدول هو الصدق الذي يسوق أصحابه إلى الإيمان بالله، أي إلى عقيدة صحيحة مقنعة للعقل وموافقة للفطرة ومطمئنة للقلب كعقيدة الإسلام، والتي بدورها صنعت صفات أخرى لازمة لها كالفداء والتضحية والشجاعة والإقدام والحب العظيم للخير وفعل الخير، ولازمتها صفات أخرى راقية كالإرادة والإخلاص والعزيمة.
صورة الإسلام في الواقع الحالي:
إن الصورة المقدمة لنا في المدارس والإعلام عن فعل الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه في مكة، أنه جمع بعض الدراويش حوله، وكان همهم الوحيد محاربة عبادة الأصنام حول الكعبة، نفس الظن الذي كان يظنه زعماء قريش آنذاك في باديء الأمر، حيث قالوا كما أخبرنا الله سبحانه وتعالى (فَقَالَ ٱلْمَلَأُ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ مِن قَوْمِهِۦ مَا نَرَىٰكَ إِلَّا بَشَرًا مِّثْلَنَا وَمَا نَرَىٰكَ ٱتَّبَعَكَ إِلَّا ٱلَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِىَ ٱلرَّأْىِ وَمَا نَرَىٰ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَٰذِبِينَ) (هود - 27))، مع العلم أن الرسالة وأفعال الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه كانت أعمالاً سياسية من الطراز الرفيع لإقامة أعظم دولة في التاريخ على أكتاف هؤلاء النفر العظماء.
5)    عالمية الإسلام من أول يوم ظهوره:
لقد جاء محمد بن عبد الله برسالة لم يدرك أبعادها وأهدافها ونجاحها إلا القلة القليلة في مكة، مع أن سيدنا محمد أعطى زعماء قريش تصورا عما يقوم به من الدعوة وأنهم إن اتبعوه سيكون لهم ملك العرب والعجم وبلاد فارس والروم.
لقد كان الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله بعد أن جاء بالرسالة خاصة مجرد رجل واحد مستضعف في مكة، فكيف آن له أن يَعِدَ وعودا كهذه لزعماء قريش وهم في كامل غطرستهم وعنفوانهم وقوتهم؟
لقد أرى اللهُ نبيَّه صيرورة هذا الأمر بصفته رسول ليثبته على الدعوة، ولكننا نقف هنا إلى هذا الحد، فالرسالة السماوية جاءت للناس كافة ولم تختص برجل واحد وكتلته، أي أننا يجب أن ننظر إلى الجانب العملي وليس القصصي فيما حصل، ولا ننظر إلى ما اختص اللهُ رسولَه به من العلم، فلولا عقيدة الإيمان التي تلت صدق الذي دخلوا في الإسلام، ولولا علومها لما كان للدعوة شأن، فبين أيدينا مادة للنهضة عظيمة أتمها الله على رسوله والمؤمنين بتمام الرسالة، تطلب منا اليوم النظر إليها واتباعها واتباع سبلها لتحقيق ما حققه الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه في أرض الواقع، وما حققه المسلمون فيما بعد من تكوين دولة صغيرة ذات شوكة وقوة في مجتمع لم يتجاوز عدده إثنا عشر ألفا في المدينة المنورة، ليس لديهم جيش ساحق، ولا أسلحة مدمرة، ولا أموالٌ طائلة.
فما هذا الذي بين أيدينا وسخره الله لنا؟ وهل ندركه حق إدراكه؟
6)    الإسلام عقيدة ونظام
رسالة الإسلام تضمنت مسائل معينة لا تكتمل صورة الإسلام إلا بكمالها وتمامها، فعقيدة الإسلام التي تضمنت الإيمان بالله وبوجوده وبإلوهية الله تضمنت كذلك الإيمان بالقرآن وبكل ما جاء فيه من أخبار وأوامر ونواه وتكاليف، وتضمنت الإيمان بدينه كاملاً، وتضمنت اتباع كل ما جاء به نبيه محمد صلوات الله وسلامه عليه، كما جاء في الخطاب القرآني (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمنوا آمنوا بِاللّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِيَ أَنزَلَ مِن قَبْلُ وَمَن يَكْفُرْ بِاللّهِ وَمَلاَئِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلاَلاً بَعِيدًا) [سورة النساء:136].
على هذا ابتنى الإسلام، الذي كان لعقيدته الدور الحاسم في بناء الشخصيات التي دخلت فيه (أي في الإسلام)، والتي كانت أعمدة البناء التي ابتنى عليها كذلك مستقبل دعوة الإسلام.

7)    رسالة الإسلام عمل سياسي ينكره كل الطغاة والزعماء ويحاربونه فالخطاب القرآني يشير إلى سيادة الله المطلقة وحكمه على الأرض:
ولكن كل من دخل الإسلام أو لم يدخل في الإسلام آنذاك أدرك أن رسالة الإسلام عمل سياسي ينكره كل الطغاة والزعماء ويحاربونه، فالشهادتان تقتضي براءة تامة من الألوهية لأي مخلوق من الزعماء والحكام والبشر والأهواء أجمعين، وفيها ولاء لله وحده ورسوله محمد، بل وأدركوا من الخطاب القرآني أن الدخول في الإسلام لا يقتصر على الإيمان بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر، بل أدركوا كذلك أن الخطاب القرآني يشير إلى فرض سيادة الله المطلقة وحكمه على الأرض، في صورة أنظمة وأحكام، يأمر الناس كافة باتباعها، بل ويحاسب المخالفين والرافضين لها.

8)    الخطاب القرآني خطاب عالمي دفع إلى التصادم السياسي بين من أسلم، وبين زعماء قريش وأتباعهم ممن كفروا بالرسالة
لم يكن الخطاب القرآني ورسالة الإسلام خاصا بالمسلمين أو المؤمنين، بل هو خطاب عالمي ذو إرادة عالمية لإخضاع العالم كله لأمره، حيث قال الله تعالى (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ) [النساء:1]. (يَٰٓأَيُّهَا ٱلنَّاسُ ٱعْبُدُواْ رَبَّكُمُ ٱلَّذِى خَلَقَكُمْ وَٱلَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) البقرة، { إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ} [النحل: 90]، أي أن هذا الخطاب المبدئي خطاب سياسي صرْف بالأمر بالخضوع لأمر الله وحكمه، وبالتسليم لأوامره ونواهيه، وليس المكلف به من دخل الإسلام وحسب، بل هو خطاب لكل الناس، لكل العالم، ومن هنا جاء التصادم السياسي بين من أسلم، وبين زعماء قريش وأتباعهم ممن كفروا بالرسالة.
وقد قالها الرسول الكريم صلوات الله وسلامه عليه صراحة وبكل وضوح في حديث عَن ابن عُمَر رَضِيَ اللَّه عنْهَما، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ ﷺ: أُمِرْتُ أَن أُقاتِلَ النَّاسَ حَتَّى يَشْهَدُوا أَن لا إِلهَ إِلاَّ اللَّه وأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، ويُقِيمُوا الصَّلاةَ، وَيُؤْتُوا الزَّكاةَ، فَإِذا فَعَلوا ذلكَ، عَصَمُوا مِنِّي دِمَاءَهُمْ وأَمْوَالَهم إِلاَّ بحَقِّ الإِسلامِ، وحِسابُهُمْ عَلى اللَّهِ،، مُتفقٌ عليه

ومن الآيات التي توالت فيما بعد الشيء الكثير التي تضمنت التهديد والوعيد لمن يكفر ولا يؤمن، هذه الآيات أي الخطاب القرآني لم يكن يغفل عن فهمها أحد في مكة، هذا من جانب، ومن جانب آخر لم يغفل أحد في مكة وغيرها عن إدراك أن رسالة الإسلام التي جاء بها محمد لم تكن تقتصر على اتباع عقيدة وحسب، بل أنها تأمر باتباعها والخضوع لأمرها، أي أن هذا الخطاب هو حديث يحمل للناس في طياته فكراً سياسياً واجتماعيا واقتصاديا وأخلاقياً عالمياً، بل ويشير إلى وحدة فكر من نوع خاص، بل ويَعِدُ بصناعة أمة عظيمة عادلة ذات أخلاق رفيعة، ويَعد بنهضة دَوْلية، ويشير إلى بناء دولة ذات قوة وعزة وانتشار، أي لم يكن القرآن الذي جاء به محمد مجرد حديث موعظة، أو حديث صلاة وصيام، بل كان يشير إلى مشروع عالمي عظيم، ومستقبل عظيم.
حتى أن الوليد بن المغيرة أدرك ذلك حق الإدراك عندما جادل سيدنا محمداً وسمع منه وعاد إلى زعماء قريش الذين انتدبوه لذلك، فقال لهم: وماذا أقول؟ فوالله! ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجز ولا بقصيدة مني، ولا بأشعار الجن، والله! ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله! إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة، وإنه لمثمر أعلاه مغدق أسفله، وإنه ليعلو وما يُعلى، وإنه ليحطم ما تحته.

9)    الإسلام وضع مفاهيم وتصوراً جديداً للناس عن الحياة
من أول يوم جاءت فيه رسالة الإسلام، جاءت منقذة للناس من الظلم والعدوان، وتضع قواعد ونظم ومفاهيم للأشياء وواقعا سياسياً لم يكن موجودا من قبل، فقال تعالى: ﴿لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَالْمَلَائِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلَاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُوا وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ﴾ [البقرة   آية:١٧٧]
وقال تعالى (أَجَعَلْتُمْ سِقَايَةَ ٱلْحَآجِّ وَعِمَارَةَ ٱلْمَسْجِدِ ٱلْحَرَامِ كَمَنْ ءَامَنَ بِٱللَّهِ وَٱلْيَوْمِ ٱلْءَاخِرِ وَجَٰهَدَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۚ لَا يَسْتَوُۥنَ عِندَ ٱللَّهِ ۗ وَٱللَّهُ لَا يَهْدِى ٱلْقَوْمَ ٱلظَّٰلِمِينَ) (التوبة - 19)

نظام الإسلام:
إذن فإن الإسلام رسالة كاملة تقوم على عقيدة محددة تقوم على أصول لا تختلف ولم تختلف يوما، معلومة غير مجهولة، وينبثق من هذه العقيدة نظام يحتوي 1) معالجات اقتصادية واجتماعية وسياسية متعلقة بالفرد والجماعة والدولة والأمة، بل وفيها 2) بيان في كيفية تنفيذ هذه المعالجات بكل تفاصيلها، وتحتوي تفاصيل في 3) كيفية المحافظة على العقيدة وعلى هذا النظام، وتفاصيل في 4) الأحكام المتعلقة بحمل رسالة الإسلام للناس كافة (أي بالسياسة الخارجية).
إِنَّآ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ ٱلْكِتَٰبَ بِٱلْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ ٱلنَّاسِ بِمَآ أَرَىٰكَ ٱللَّهُ ۚ وَلَا تَكُن لِّلْخَآئِنِينَ خَصِيمًا   (النساء - 105)
10) بعد أن اكتملت صورة المبدأ أخذ الرسول صلوات الله وسلامه عليه بالإعداد لإقامة الدولة (طلب النصرة)
بهذه الرسالة انطلق الرسول محمد صلى الله عليه وسلم والصحابة للإعداد ليجعلوا لهذا الإسلام سلطانا في الأرض، وهذا ما فعله حقاً صلوات الله وسلامه عليه، حيث توجه بطلب النصرة من كبار القبائل في الجزيرة العربية، بعد أن تأكد له صدّ قريش عنه ومحاربتهم له ورفضهم أن يكون لهذا الدين سلطانا يحكم في الأرض، فعرَض الرسول محمد رسالته على بضع وأربعين قبيلة كما ورد في سيرة ابن اسحق، والتي قوبلت منهم جميعا بالرفض ما عدا أن كان لبعضهم شروطا لم يقبلها الرسول صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله منهم، حتى فاز بها الأوس والخزرج رضي الله عنهم بالمدينة المنورة، فطلب النصرة يعني الإيمان بالله ورسوله والخضوع لرسالة الإسلام، وتسليم الحكم للرسول محمد صلى الله عليه وسلم ليحكم الناس بما أراه الله.
أي أن عملية إقامة دولة بهذه الكيفية بأن يؤمن أهل النصرة والسلاح بالدعوة والتسليم لها وترك مواقعهم القيادية وتسليمها للرسول محمد من قريش، بل وتسخير أموالهم ورجالهم ودمائهم في سبيل هذه الدعوة، لقد كان ذلك أمرا وطلبا عظيماً حقاً وصعباً، وقد كان كان يتطلب إيماناً كإيمان الصادقين الأولين ممن دخلوا في الإسلام من الصحابة، وهذا ما حصل، لنعرف ما يصنعه الصدق من اتباع الحق.
الشاهد من ذلك كله أن الإسلام عقيدة روحية ينبثق عنها نظام، وكمال الإسلام وتمامه يأتي من خلال تطبيق أحكامه على أرض الواقع، ولو لم يكن الإسلام كذلك لانتهت دعوة الرسول محمد في مهدها في مكة، ولو لم تكن بتلك الصفة لربما لم يتبع الرسول إلا قليل من الرجال، وإن اتبعه أحد بتلك الحال فلربما ترهبن بعضهم فيما بعد واكتفى بالصلوات والتسابيح في بيوتهم أو في صوامع كالكهان، ولماتوا ومات معهم إيمانهم على ذلك، وتكون تلك نهاية دعوة الإسلام.
وأشير هنا إلى أمر مهم، أن الرسول محمد صلوات الله وسلامه عليه أخذ في بناء كتلة الصحابة المهاجرين وتعليمهم وتجهيزهم لمرحلة استلام الحكم، أخذ ذلك ثلاثة عشر عاما، وعندما نصره الأوس والخزرج استلم زمام الحكم في المدينة المنورة، أعانه في ذلك من رباهم من المهاجرين في المقام الأول، والأنصار في المقام الثاني.
وأشير كذلك إلى أن العملية التي قام بها صلوات الله وسلامه عليه برمتها عملية سياسية صرفة، لا يغفل عنها صادق أو عاقل أو مؤمن، الإسلام دين ودولة، عقيدة عقلية ينبثق عنها نظام، أي شريعة، في كل جوانب الدولة من نظام الحكم والنظام الاقتصادي والنظام الاجتماعي والقضاء والإدارة والتجارة والصناعة وبيت المال، ويكذب أو يجهل من يقول غير ذلك.
قال تعالى:
(هُوَ ٱلَّذِىٓ أَرْسَلَ رَسُولَهُۥ بِٱلْهُدَىٰ وَدِينِ ٱلْحَقِّ لِيُظْهِرَهُۥ عَلَى ٱلدِّينِ كُلِّهِۦ وَلَوْ كَرِهَ ٱلْمُشْرِكُونَ) سورة الصف 9
وقال تعالى في سورة يوسف (إِنِ ٱلْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ ۚ أَمَرَ أَلَّا تَعْبُدُوٓاْ إِلَّآ إِيَّاهُ ۚ ذَٰلِكَ ٱلدِّينُ ٱلْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ ٱلنَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ)

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق