يجب أن لا يخفى على عاقل أن مسألة نشوء حركة إسلامية ليست رحلة صيد أو مغامرة شيقة وممتعة، أو هي مجرد تجمّع رجال، تجمعهم عواطف جياشة وعلاقات مبنية على العموميات من المطالب والشعارات، وإنما هي علم عظيم، وحمل ثقيل، وطريق صعب، وتحدٍّ سافر، ولا يعتمد على عضلات أصحابه أو على المال أو الجاه، أو على علم بعضهم دون الآخرين، أو على حمل السلاح، ولا حتى على كل هذه المقومات مجتمعة.
بل إن مسألة نشوء حزب إسلامي هي من أعقد أمور الدنيا وأصعبها، وأكثرها شدة، وأعظمها إبداعاً، وأشدها قسوة على أصحابها، وهي من أكثر الأمور التي في حاجة إلى تضحية بالنفس والمال والولد، لأن الحزب الإسلامي الصحيح (ولا نقول التجمع أو الحركة أو الجماعة) إيذان بالتغيير لكيانات ودول قائمة، بل ولميزان القوى الدولي القائم، بل وينعكس على العلاقات الدولية والمصالح المتبادلة بين الدول المستعمرة أو غيرها، بل ويؤثر في مزاج هيئة الأمم المتحدة ومؤسساتها العالمية من بنك دولي ومنظمة التجارة العالمية ويونسكو وغيرها وغيره، وهو قاصم لظهر البورصات العالمية، وللتداولات الرأسمالية في العالم، بل نشوء الحزب الإسلامي الصحيح هو إيذان بسقوط دول استعمارية عظمى وسقوط حكوماتها ومؤسساتها الصناعية والاقتصادية والتجارية، بل وحتى مؤسساتها الاجتماعية، وهو إيذان بحرب حقيقية فاصلة بين الإسلام والكفر إلى يوم الدين.
نشوء أو قيام أو نجاح حزب إسلامي اليوم ووصوله إلى التمكين أمر عظيم تخشاه كل دول العالم، فالدول الاستعمارية تعرف أن مصالحها سوف تُضرب في عقر دارها، أما حكام الدول العربية وغير العربية من العالم الثالث أو المنطقة الإسلامية بالتحديد، فيعلمون أن رؤوسهم سوف تتطاير إما في الهواء، أو إلى أمريكا وأوروبا.
نجاح الحزب الإسلامي الصحيح داخلياً ضربة للحاكم القائم وللدولة العميقة، أي ليس لشخصه وحسب بل ولوزرائه وأعوانه ولكل المنتفعين من النظام القائم وأقربائهم وأرحامهم، فببقاء الحاكم على كرسي الحكم تتحقق مصالح كل أولئك وتتوسع متعهم وكفايتهم وسلطانهم على الناس وظلمهم، وسقوط الحاكم القائم ضرر وأذى وشر عليهم وعلى مناصبهم ومصالحهم ومتعهم وأهوائهم، حتى الجندي البسيط مصلحته في بقاء الحاكم القائم على عرشه، لأنه في انتظار راتبه الشهري بعد الأيام المعدودة.
مزاج الحياة في منطقة ما من مناطق المسلمين، بسوئها وهبوطها وتدنيها، مِزاج مستقر إلى حد ما، وقطار المصالح فيها يسير بهدوء، ويُرضي شريحة كبيرة من الناس، بالرغم من أنه يدوس على ثلثي الشعوب أثناء سيره، فعامة الناس (كما هو واقع المسلمين اليوم) يتوقون للأمن وللغذاء والراحة التي تكاد تكون معدومة، حتى ولو على حساب ذُلهم وهوانهم، فعامتهم كما هو معلوم تضم الأطفال والنساء والشيوخ والعجائز والعاجزين واليتامى والأرامل وغيرهم، وأصبحت مُثقلة بهموم عظيمة، الذين لو حدثتهم في أمر التغيير لرفضوه ورفضوا أصحابه، فهي لا تنظر إلا لمصالحها القريبة، وتتوق إلى إشباع حاجاتها الأساسية وإلى أمْن عاجل ينزل من السماء بدون عناء ومشقة.
كل هذه المسائل يواجهها الحزب الإسلامي الصحيح الذي يعمل للتغيير، ويواجه أعداءَ كثر، من أهله وأقاربه والناس أجمعين، ناهيك عن الحاكم وزبانيته واستخبارات الدول المحتلة، المقيمة لصُلب هذا الحاكم وذاك، والمحافظة على كرسيّه، والساهرة على رضاه وعلى رضا أعوانه وأشياعه وأتباعه، وعلى رضا عسكره أولاً وآخراً.
الحزب الإسلامي الصحيح حزب جادٌ، لا يرتضي إلا فكره الصحيح ومنهجه، ولا يهادن ولا يداهن أحداً من الحكام، ولا يرتضي أنصاف الحلول، وهذا مما يُصعّب مهمته، ويرمي أشواكاً فوق أشواك في طريقه، ويعرضه إلى الأذى والملاحقة والمحاربة من الجميع، فالحاكم يحاربه خوفاً على عرشه، وعلماء السوء والمتمشيخين وقادة القوات العسكرية وغيرهم ممن قد باعوا ولاءهم لغير الله يحاربونه، والآخر ممن أشرك بالله الحاكم (الملك أو الرئيس) في أعماله وطرقه وعلمه يحاربه، والآخر يتجسس عليه وعلى أفراد الحزب وأعراضهم لأنه ينتظر راتب آخر الشهر، والآخرون يُعينون على محاربته، لأنه لو قُدّر لهذا الحزب النجاح فسيُفسد عليهم صفقاتِهم التجارية وأعمالهم الخفية، الإجرامية الخاصة والحكومية، حتى أهالي أفراد هذا الحزب وأقاربهم يحاولون أن لا يستمعوا لهم شفقة وخوفاً من غضب وجور الحاكم.
وبالتالي فإن الحزب الإسلامي الصحيح الصادق كما يجد من المحاربة الكثير، يجد من فرص النجاح القليل، ولذلك فإن الأمر في حاجة إلى تضحية، وصبر على المعاناة ومثابرة، ووقت طويل، وجهد عظيم، ناهيك عن حاجة الحزب إلى دهاء عظيم وثبات، وخاصة ما يجده العمل الإسلامي من عرقلة للأعمال، بسبب التعتيم والتشويه والتهميش الإعلامي، ونتيجة لآراء المضللين والفساق المتمسلمين، فكل ما زادت قوة الإعلام زاد التضييق والخناق على الحزب، وأصبح المسلمون أنفسهم عقبة في طريقه بدلاً من أن يكونوا هم أداة نجاحه ونجاحهم على حد السواء، فتبات الأمة الإسلامية تحارب الهدف الذي يسوقهم أصلا إلى الخلاص من مصائبهم.
خطورة أعمال التغيير:
فكما أن عملية التغيير عملية عظيمة عالمياً، لديها القدرة لتنير الأرض كلها بنورها، فإن لديها القدرة أيضاً أن تنهار بالشعوب في غياهب الدجى، وتُسقطهم في وحول فوق الوحول التي مثقلين بها، وهذا يحدث عندما لا يكون الحزب لديه مقومات الحزب الناجح التي ذكرناها في الحلقات السابقة، ومن خلال نقص المقومات تجد الإستخبارات الأمريكية والأوربية وغيرها منافذ عديدة للإيقاع بهذه الأحزاب في فتن مع شعوبها، ليس السبب في ذلك الخلل في مقومات هذه الأحزاب الإسلامية وحسب، بل مكر وتربص أعداء الإسلام بالأمة الإسلامية، وتمكّن استخباراتهم من التغلغل داخل الشعوب، مستغلين كل ما يمكن استغلاله لإيقاع الفتن في داخلها، مستعينين في ذلك بالخائنين لله ولرسوله والمؤمنين، من حكام وأمراء وجواسيس من أبناء البلاد، ومستفيدين بالطبع من أخطاء الحركات والجماعات الإسلامية، ومن الخلل الذي تعاني منه.
إن الدأب في التشكيك في جميع الحركات الإسلامية والعمل الدعوي الإسلامي والشخصيات الإسلامية الفذة ذو أهمية عظمى لدى الحكومات القائمة والإعلام، وكذا محاولة إثبات أن أي حركة في سبيل التغيير هي مَهْلَكةٌ للناس والمجتمع ولأمنهم، وهذا يخدم إقناع الناس بالانصراف عن أمر الإسلام، ويخدم تجريم أفكار التغيير، التي لا تجلب لهم إلا الفتن والمصائب والكوارث "كما يدعون".
الحركة المثالية الصحيحة تتمثل في التكوين الحزبي، الذي تأسس وتأصل علمه لأول مرة في تاريخ البشرية على يدي سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة المكرمة، حيث كان هو وأصحابه رضي الله عنهم كتلة واحدة، على رأي رجل واحد، بناء فكرياً واحداً، عزيمة واحدة، منهج واحد، هدف واحد، ثباتهم على أمرهم بالرغم من الأهوال والمصائب والإغراءات، تمويل واحد من داخل كتلتهم، ثم تسلّمهم زمام الأمور في المدينة المنورة كرجل واحد، بقيادة سيدنا محمد في حياته صلى الله عليه وسلم وبعد وفاته، حتى أناروا كل الدنيا أكثر من اثني عشر قرناً من الزمان.
وبالرغم من هذا التصوير المُحبط، فلله في حكمته تدبير ومكر للمؤمنين فوق تصور البشر، لذا فعلى الأمة الإسلامية ورجالها المؤثرين من أهل الحل والعقد والقادة والوجهاء والمخلصين أن يعطوا بيعتهم للعاملين للإسلام كما فعل الأنصار رضوان الله عليهم مع الرسول الأمين صلوات الله وسلامه عليه، وذهبوا بالأجر، وعليهم المساهمة في العمل على عودة الإسلام للحكم والتمكين، ولكن مع الحرص أن يكونوا متيقظين وعالمين وواعين لمن يعطون بيعتهم.
قال الله تعالى:
{ وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَـئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ } آل عمران104
وقال تعالى:
وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَن يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ{8} الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ{9} البروج
وقال تعالى:
{وَقُلِ اعْمَلُواْ فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ }التوبة105
وقال تعالى:
وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ
وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ
مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَىٰ لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم
مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا ۚ يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا ۚ وَمَن
كَفَرَ بَعْدَ ذَٰلِكَ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ النور(55)
ثم إن رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قضى صلاته أقبل علينا بوجهه فقال يا أيها الناس اسمعوا واعقلوا، واعلموا أن لله عز وجل عبادا ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم النبيون والشهداء على منازلهم وقربهم من الله، فجثا رجل من الأعراب من قاصية الناس وألوى بيده إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال يا رسول الله، ناس من المؤمنين ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم الأنبياء والشهداء على مجالسهم وقربهم؟ أنعتهم لنا، حلهم لنا (يعني صفهم لنا شكلهم لنا)، فسُرّ وجه النبي صلى الله عليه وسلم بسؤال الأعرابي، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: هم ناس من أفناء الناس ونوازع القبائل لم تصل بينهم أرحام متقاربة، تحابّوا في الله وتصافوا، يضع الله لهم يوم القيامة منابر من نور يجلسون عليها فيجعل وجوههم نورا وثيابهم نورا، يفزع الناس يوم القيامة ولا يفزعون وهم أولياء الله الذين لا خوف عليهم ولا هم يحزنون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق